ثم واصلت السورة الكريمة حديثها عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم فتحدثت عن قصة صالح - عليه السلام - مع قومه ، فقال - تعالى -
{ وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً . . . } .
هذه قصة صالح - عليه السلام - مع قومه كما ذكرتها هذه السورة ، وقد وردت هذه القصة فى سور أخرى منها سورة الأعراف ، والشعراء ، والنمل ، والقمر .
وصالح - عليه السلام - ينتهى نسبه إلى نوح - عليه السلام - فهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود . . بن نوح .
وثمود : اسم للقبيلة التى منها صالح ، سميت باسم جدها ثمود ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها ، لأن الثمد هو الماء القليل .
وكانت مساكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - وهو مكان يقع بين الحجاز والشام إلى وادى القرى ، وموقعه الآن - تقريبا - المنطقة التى بين الحجاز وشرق الأردن ، وما زال المكان الذى كانوا يسكنونه بمدائن صالح حتى اليوم .
وقبيلة صالح من القبائل العربية ، وكانوا خلفاء لقوم هود - عليه السلام - فقد قال - سبحانه - : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً . . . } وكانوا يعبدون الأصنام ، فأرسل الله - تعالى - إليهم صالحاً ليأمرهم بعبادة الله وحده .
وقوله : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ . . }
معطوف على ما قبله من قصتى نوح وهود - عليهما السلام - .
أى : وأرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم فى النسب والموطن صالحا - عليه السلام فقال لهم تكل الكلمة التى قالها كل نبى لقومه : يا قوم اعبدوا الله وحده ، فهو الإِله الذى خلقكم ورزقكم ، وليس هناك من إله سواه يفعل ذلك .
ثم ذكرهم بقدرة الله - تعالى - وبنعمه عليهم فقال : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا }
والإِنشاء : الإِيجاد والإِحداث على غير مثال سابق .
واستعمركم من الإِعمار ضد الخراب فالسين والتاء للمبالغة . يقال : أعمر فلان فلانا فى المكان واستعمره ، أى جعله يعمره بأنواع البناء والغرس والزرع .
أى : اعبدوا الله - تعالى - وحده ، لأنه - سبحانه - هو الذى ابتدأ خلقكم من هذه الأرض ، وأبوكم آدم ما خلق إلا منها وهو الذى جعلكم المعمرين لها ، والساكنين فيها { تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً . . . } قال - تعالى - فى شأنهم . . { أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ آمِنِينَ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ . وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ . فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } فأنت ترى أن صالحا - عليه السلام - قد ذكرهم بجانب من مظاهر قدرة الله ومن أفضاله عليهم ، لكى يستميلهم إلى التفكر والتدبر ، وإلى تصديقه فيما يدعوهم إليه .
والفاء فى قوله { فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } للتفريع على ما تقدم .
أى : إذا كان الله - تعالى - هو الذى أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فعليكم أن تخلصوا له العبادة ، وأن تطلبوا مغفرته عما سلف منكم من ذنوب .
ثم تتوبوا إليه توبة صادقة : تجعلكم تندمون على ما كان منكم فى الماضى من شرك وكفر ، وتعزمون على التمسك بكل ما يرضى الله - تعالى - فى المستقبل .
ثم فتح أمامهم باب الأمل فى رحمة الله - تعالى - فقال : { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }
أى : إن ربى قريب الرحمة من المحسنين ، مجيب الدعاء الداعين المخلصين ، فاقبلوا على عبادته وطاعته ، ولا تقنطوا من رحمة الله .
( وإلى ثمود أخاهم صالحا . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها . فاستغفروه ثم توبوا إليه ، إن ربي قريب مجيب . .
( يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . .
وإنه كذلك المنهج الذي لا يتبدل :
( فاستغفروه ثم توبوا إليه ) . .
ثم هو التعريف بحقيقة الألوهية كما يجدها في نفسه الرسول :
وذكرهم صالح بنشأتهم من الأرض . نشأة جنسهم ، ونشأة أفرادهم من غذاء الأرض أو من عناصرها التي تتألف منها عناصر تكوينهم الجسدي . ومع أنهم من هذه الأرض . من عناصرها . فقد استخلفهم الله فيها ليعمروها . استخلفهم بجنسهم واستخلفهم بأشخاصهم بعد الذاهبين من قبلهم .
ثم هم بعد ذلك يشركون معه آلهة أخرى . .
( فاستغفروه ثم توبوا إليه ) . .
واطمئنوا إلى استجابته وقبوله :
والإضافة في ( ربي ) ولفظ ( قريب ) ولفظ ( مجيب ) واجتماعها وتجاورها . . ترسم صورة لحقيقة الألوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة ، وتخلع على الجو أنسا واتصالا ومودة ، تنتقل من قلب النبي الصالح إلى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب !
قوله تعالى : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } إلى قوله { غيره } الكلام فيه كالذي في قوله : { وإلى عَاد أخاهم هودا } [ هود : 50 ] إلخ .
وذكر ثمود وصالح عليه السّلام تقدّم في سورة الأعراف .
وثمود : اسم جدّ سميت به القبيلة ، فلذلك منع من الصرف بتأويل القبيلة .
وجملة { هو أنشأكم من الأرض } في موضع التّعليل للأمر بعبادة الله ونفي إلهية غيره ، وكأنهم كانوا مثل مشركي قريش لا يدّعون لأصنامهم خلقاً ولا رزقاً ، فلذلك كانت الحجّة عليهم ناهضة واضحة .
والإنشاء : الإيجاد والإحداث ، وتقدّم في قوله تعالى : { وأنشأنا من بعدهم قرناً آخرين } في [ الأنعام : 6 ] .
وجَعل الخبرين عن الضمير فعلين دون : هو منشئكم ومستعمركم لإفادة القَصر ، أي لم ينشئكم من الأرض إلاّ هو ، ولم يستعمركم فيها غيره .
والإنشاء من الأرض خلق آدم من الأرض لأنّ إنشاءه إنشاء لنسله ، وإنّما ذكر تعلّق خلقهم بالأرض لأنّهم كانوا أهل غرس وزرع ، كما قال في سورة [ الشعراء : 146 148 ] { أتتْركون فيما هاهنا آمنين في جنّاتٍ وعيونٍ وزروعٍ ونخلٍ طلعها هضيمٌ } ولأنّهم كانوا ينحتون من جبال الأرض بيوتاً ويبنون في الأرض قصوراً ، كما قال في الآية الأخرى : { وبوّأكم في الأرض تتّخذون من سهولها قصُوراً وتنحتون الجبال بيوتاً } [ الأعراف : 74 ] ، فكانت لهم منافع من الأرض تناسب نعمة إنشائهم من الأرض فلأجل منافعهم في الأرض قيّدت نعمة الخلق بأنّها من الأرض التي أنشئوا منها ، ولذلك عطف عليه { واستعمركم فيها } .
والاستعمار : الإعمار ، أي جعلكم عامرينها ، فالسّين والتاء للمبالغة كالتي في استبقَى واستفاق . ومعنى الإعمار أنهم جَعلوا الأرض عامرة بالبناء والغرس والزرع لأنّ ذلك يعدّ تعميراً للأرض حتى سمي الحرث عِمارة لأنّ المقصود منه عَمر الأرض .
وفرع على التذكير بهذه النعم أمرهم باستغفاره والتّوبة إليه ، أي طلب مغفرة أجرامهم ، والإقلاع عمّا لا يرضاه من الشرك والفساد . ومن تفنّن الأسلوب أن جعلت هذه النعم علّة لأمرهم بعبادة الله وحده بطريق جملة التّعليل ، وجعلت علّة أيضاً للأمر بالاستغفار والتّوبة بطريق التّفريع .
وعطف الأمر بالتّوبة بحرف التّراخي للوجه المتقدّم في قوله : { ويا قوم استغفروا ربّكم ثم توبوا إليه } [ هود : 51 ] في الآية المتقدمة .
وجملة { إنّ ربّي قريب مجيب } استئناف بيانيّ كأنهم استعظموا أن يكون جرمهم ممّا يقبل الاستغفار عنه ، فأجيبوا بأنّ الله قريب مجيب ، وبذلك ظهر أنّ الجملة ليست بتعليل . وحرف { إنّ } فيها للتّأكيد تنزيلاً لهم في تعظيم جرمهم منزلة من يشكّ في قبول استغفاره .
والقرب : هنا مستعار للرأفة والإكرام ، لأنّ البعد يستعار للجفاء والإعراض . قال جبير بن الأضبط :
تباعد عنّي مطحل إذ دعوته *** أمين فزاد الله ما بيننا بعداً
فكذلك يستعار ضدّه لضدّه ، وتقدّم في قوله : { فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الداعِ } في سورة [ البقرة : 186 ] . والمجيب هنَا : مجيب الدّعاء ، وهو الاستغفار . وإجابة الدّعاء : إعطاء السائل مسؤوله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.