وقوله - تعالى - : { على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } متعلق بقوله : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت . . } .
والمراد بتبديل أمثالهم : إيجاد قوم آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا .
والمعنى : نحن وحدنا الذين قدرنا بينكم الموت وحددناه على حسب مشيئتنا ونحن الذين فى قدرتنا أن نبدل من الذين ماتوا منكم أشباها لهم ، نوجدهم بقدرتنا - أيضا - كما قال - سبحانه - : { وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } ويصح أن يكون قوله - تعالى - : { قَدَّرْنَا } بمعنى قضينا وكتبنا ، ويكون قوله : { على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } متعلق بقوله { بِمَسْبُوقِينَ } ، ويكون المراد بتبديل أمثالهم . إيجاد قوم آخرين سواهم .
والمعنى : نحن الذين وحدنا كتبنا عليكم ، وقضيناه على جميع الخلق فكل نفس ذائقة الموت ، وما نحن بمغلوبين على إهلاككم ، وعلى خلق أمثالكم بدلا منكم كما قال - تعالى - : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله والله هُوَ الغني الحميد إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } وقوله - سبحانه - : { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } بيان للون آخر من ألوان قدرته - تعالى - .
أى : نحن لسنا بعاجزين ولا بمغلوبين . . . على أن نهلككم ونأتى بدلا منكم بغيركم . ولسنا - أيضا - بعاجزين على أن ننشئكم بعد إهلاككم فيما لا تعلمونه من الصور ، والهيئات ، والصفات .
قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } أى : قدرناه تقديرا ، وقسمناه عليكم قسمة الرزق على اختلاف وتفاوت كما تقتضيه مشيئتنا فاختلف أعماركم من قصير وطويل ومتوسط .
وقوله : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } يقال : سبقته على الشىء إذا أعجزته عنه ، وغلبته عليه ، ولم تمكنه منه ، فمعنى قوله { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } أنا قادرون على ذلك لا تغلبوننا عليه . وأمثالكم جمع مثل - بسكون الثاء - أى : على أن نبدل منكم ومكانكم أشباهكم من الخلق { وَ } على أن { نُنشِئَكُمْ } فى خلق لا تعلمونها وما عهدتم مثلها . يعنى أنا نقدر على الأمرين جميعا : على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم ، فيكف نعجز عن إعادتكم .
ويجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل ، بفتحتين أى : على أن نبدل ونغير صفاتكم التى أنتم عليها فى خلقكم وأخلاقكم ، وننشئكم فى صفات لا تعلمونها .
لعمارة الأرض والخلافة فيها بعدكم . والله الذي قدر الموت هو الذي قدر الحياة . قدر الموت على أن ينشئ أمثال من يموتون ، حتى يأتي الأجل المضروب لهذه الحياة الدنيا . . فإذا انتهت عند الأجل الذي سماه كانت النشأة الأخرى :
في ذلك العالم المغيب المجهول ، الذي لا يدري عنه البشر إلا ما يخبرهم به الله . وعندئذ تبلغ النشأة تمامها ، وتصل القافلة إلى مقرها .
وقرأ جمهور القراء : «قدّرنا » بشد الدال . وقرأ كثير وحده : «قدَرنا » بتخفيفها . والمعنى فيها يحتمل أن يكون بمعنى قضينا وأثبتنا ، ويحتمل أن يكون بمعنى سوينا ، وعدلنا التقدم والتأخر ، أي جعلنا الموت رتباً ، ليس يموت العالم دفعة واحدة ، بل بترتيب لا يعدوه أحد .
وقال الطبري معنى الآية : «قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم » أي تموت طائفة ونبدلها بطائفة ، هكذا قرناً بعد قرن .
وقوله : { وما نحن بمسبوقين } على تبديلكم إن أردناه وإن ننشئكم بأوصاف لا يصلها عملكم ولا يحيط بها كفركم . قال الحسن : من كونكم قردة وخنازير .
قال القاضي أبو محمد : تأول الحسن هذا ، لأن الآية تنحو إلى الوعيد ، وجاءت لفظة «السبق » هنا على نحو قوله عليه السلام : «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم »{[10916]} .
ويتعلق { على أن نبدل أمثالكم } ب { مسبوقين } لأنه يقال : غلبه على كذا ، إذا حال بينه وبين نواله ، وأصله : غلبه على كذا ، أي تمكن من كذا دونه قال تعالى : { والله غالب على أمره } [ يوسف : 21 ] . ويكون الوقف على قوله : { أمثالكم } .
ويجوز أن يكون { على أن نبدل أمثالكم } في موضع الحال من ضمير { قدرنا } [ الواقعة : 60 ] ، أي قدرنا الموت على أن نحييكم فيما بعدُ إدماجاً لإِبطال قولهم : { أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون } [ الواقعة : 47 ] فتكون ( على ) بمعنى ( مع ) وتكون حالاً مقدرة ، وهذا كقول الواعظ : « على شرط النقض رُفع البنيان ، وعلى شرط الخروج دخلتْ الأرواح للأبدان » ويكون متعلق ( مسبوقين ) محذوفاً دالاً عليه المقام ، أي ما نحن بمغلوبين فيما قدّرناه من خلقكم وإماتتكم ، ويجعل الوقف على ( مسبوقين ) .
ويفيد قوله : { نحن قدرنا بينكم الموت } الخ وراء ذلك عبرة بحال الموت بعد الحياة فإن في تقلب ذيْنك الحالين عبرة وتدبراً في عظيم قدرة الله وتصرفه فيكون من هذه الجهة وزانُه وزان قوله الآتي : { لو نشاء لجعلناه حطاماً } [ الواقعة : 65 ] وقوله : { لو نشاء جعلناه أجاجاً } [ الواقعة : 70 ] وقوله : { نحن جعلناها تذكرة ومتاعاً للمقوين } [ الواقعة : 73 ] .
ومعنى : { أن نبدل أمثالكم } : نبدل بكم أمثالكم ، أي نجعل أمثالكم بدلاً .
وفعل ( بدّل ) ينصب مفعولاً واحداً ويتعدى إلى ما هو في معنى المفعول الثاني بحرف الباء ، وهو الغالب أو ب ( مِن ) البدلية فإن مفعول ( بدّل ) صالح لأن يكون مُبدَلاً ومبدَلا منه ، وقد تقدم في سورة البقرة ( 61 ) قوله تعالى : { أتستبدلون الذي هو أدنى } وفي سورة النساء ( 2 ) عند قوله : ولا تَتَبَدّلوا الخبيث بالطّيب ، فالتقدير هنا : على أن نبدّل منكم أمثالكم ، فحذف ، متعلق نبدل } وأبقي المفعول لأن المجرور أولى بالحذف .
والأمثال : جمع مِثْل بكسر الميم وسكون المثلثة وهو النظير ، أي نخلق ذوات مماثلة لذواتكم التي كانت في الدنيا ونودع فيها أرواحكم .
وهذا يؤذن بأن الإِعادة عن عدم لا عن تفريق . وقد تردد في تعيين ذلك علماء السنة والكلام .
ويجوز أن يفيد معنى التهديد بالاستئصال ، أي لو شئنا استئصالكم لما أعجزتمونا فيكون إدماجاً للتهديد في أثناء الاستدلال ويكون من باب قوله تعالى : { إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد } [ إبراهيم : 19 ] .
{ وننشئكم } عطف على { نبدل } ، أي ما نحن بمغلوبين على إنشائكم .
وهذا العطف يحتمل أن يكون عطف مغاير بالذات فيكون إنشاؤهم شيئاً آخر غير تبديل أمثالهم ، أي نحن قادرون على الأمرين جميعاً ، فتبديل أمثالهم خلق أجساد أخرى تودع فيها الأرواح ، وأما إنشاؤهم فهو نفخ الأرواح في الأجساد الميتة الكاملة وفي الأجساد البالية بعد إعادتها بجمع متفرقها أو بإنشاء أمثالها من ذواتها مثل : عَجب الذنب ، وهذا إبطال لاستبعادهم البعث بعد استقرار صور شبهتهم الباعثة على إنكار البعث .
ويحتمل أن يكون عطف مغاير بالوصف بأن يراد من قوله : { وننشئكم في ما لا تعلمون } الإِشارة إلى كيفية التبديل إشارة على وجه الإِبهام .
وعطف بالواو دون الفاء لأنه بمفرده تصوير لقدرة الله تعالى وحكمته بعدما أفاده قوله : { أن نبدل أمثالكم } من إثبات أن الله قادر على البعث .
و { ما } من قوله : { في ما لا تعلمون } صادقة على الكيفية ، أو الهيئة التي يتكيّف بها الإنشاء ، أي في كيفية لا تعلمونها إذ لم تحيطوا علماً بخفايا الخلقة . وهذا الإجمال جامع لجميع الصور التي يفرضها الإمكان في بعث الأجساد لإيداع الأرواح .
والظرفية المستفادة من { في } ظرفية مجازية معناها قوة الملابسة الشبيهة بإحاطة الظرف بالمظروف كقوله : { فعدلك في أي صورة ما شاء ركّبك } [ الانفطار : 7 ، 8 ] .