التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ} (84)

قال الإِمام الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما بين حال القوم ، أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها ، وذكر أيضا من حالهم أن أكثرهم الكافرون أتبعه بالوعيد ، فذكر حال يوم القيامة فقال : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً . . . } ، وذلك يدل على أن أولئك الشهداء يشهدون عليهم بذلك الإِنكار ، وبذلك الكفر ، والمراد بهؤلاء الشهداء : الأنبياء ، كما قال - تعالى - : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } ، والمعنى : واذكر - أيها العاقل لتعتبر وتتعظ - { يَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ } ، أي : جماعة من الناس ، { شهيدا } ، يشهد للمؤمن بالإِيمان ويشهد على الكافر بالكفر .

قال ابن عباس : شهيد كل أمة نبيها يشهد لهم بالإِيمان والتصديق ، وعليهم بالكفر والتكذيب .

وقوله : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } ، بيان للمصير السيئ الذي ينتظر هؤلاء الكافرين يوم القيامة . أي : ثم لا يؤذن للذين كفروا يوم القيامة في الاعتذار عما كانوا عليه في الدنيا من عقائد زائفة ، وأقوال باطلة ، وأفعال قبيحة ، كما قال - تعالى - في سورة أخرى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } ، أو المعنى : ثم لا يؤذن لهم في الرجوع إلى الدنيا ليتداركوا ما فاتهم من عقائد سليمة وأعمال صالحة ؛ لأنهم قد تركوها ولا عودة لهم إليها . أي : ثم لا يؤذن لهم في الكلام ، بعد أن ثبت بطلانه ، وقامت عليهم الحجة . والتعبير بثم للإشعار بأن مصيبتهم بسبب عدم قبول أعذارهم ، أشد من مصيبتهم بسبب شهادة الأنبياء عليهم .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت ما معنى : " ثم " هذه ؟ .

قلت : معناها أنهم يبتلون بعد شهادة الأنبياء بما هو أطم منها ، وهو أنهم يمنعون الكلام ، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا إدلاء بحجة .

وقوله - سبحانه - : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ، تيئيس آخر لهم في الحصول على شيء من رحمة الله - تعالى - ، أي : لا يؤذن لهم في الاعتذار ، ولا يقبل منهم أن يزيلوا عتب ربهم ، أي : غضبه وسخطه عليهم ؛ لأن العتاب إنما يطلب لأجل معاودة الرضا من العاتب ، وهؤلاء قد انسد عليهم هذا الطريق ، لأن الله - تعالى - قد سخط عليهم سخطا لا مجال لإِزالته ، بعد أن أصروا على كفرهم في الدنيا وماتوا على ذلك .

قال القرطبي : قوله : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } ، أي : لا يكلفون أن يرضوا ربهم ؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف ، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون .

وأصل الكلمة من العَتْب - بفتح العين وسكون التاء - ، وهي الموجدة . يقال : عَتَب عليه يُعتِب ، إذا وجد عليه ، فإذا فاوضه فيما عتب عليه فيه ، قيل : عاتبه ، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب ، والاسم العتبى ، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب .

قال النابغة :

فإن كنتُ مظلوما فعبدا ظلمتَه . . . وإن كنتَ ذا عُتْبَى فمثلك يُعتِبُ

وبذلك ترى الآية الكريمة قد نفت عن الذين كفروا قبول أعذارهم ، وقبول محاولتهم إرضاء ربهم عما كانوا عليه من كفر وزيغ فى الدنيا .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ} (84)

77

ثم يعرض ما ينتظر الكافرين عندما تأتي الساعة التي ذكرت في مطلع الحديث :

( ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ، ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون . وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون . وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا : ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك . فألقوا إليهم القول : إنكم لكاذبون . وألقوا إلى الله يومئذ السلم ، وضل عنهم ما كانوا يفترون . الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ) . .

والمشهد يبدأ بموقف الشهداء من الأنبياء يدلون بما يعلمون مما وقع لهم في الدنيا مع أقوامهم من تبليغ وتكذيب والذين كفروا واقفون لا يؤذن لهم في حجة ولا استشفاع ولا يطلب منهم أن يسترضوا ربهم بعمل أو قول ، فقد فات أوان العتاب والاسترضاء ، وجاء وقت الحساب والعقاب .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ} (84)

{ ويوم نبعث من كل أمة شهيدا } وهو نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والكفر . { ثم لا يُؤذن للذين كفروا } في الاعتذار إذ لا عذر لهم . وقيل في الرجوع إلى الدنيا . و{ ثم } لزيادة ما يحيق بهم من شدة المنع عن الاعتذار لما فيه من الإقناط الكلي على ما يمنون به من شهادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . { ولا هم يُستعتبون } ولا هم يسترضون ، من العتبى وهي الرضا وانتصاب يوم بمحذوف تقديره اذكر ، أو خوفهم أو يحيق بهم ما يحيق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَيَوۡمَ نَبۡعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٖ شَهِيدٗا ثُمَّ لَا يُؤۡذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلَا هُمۡ يُسۡتَعۡتَبُونَ} (84)

وقوله :

{ ويوم نبعث } الآية وعيد ، والتقدير : واذكر يوم نبعث ، ويرد { شهيداً } على كفرهم وإِيمانهم ، ف «شهيد » بمعنى : شاهد ، وذكر الطبري أن المعنى : ثم ينكرونها اليوم ، { ويوم نبعث من كل أمة شهيداً } ، أي : ينكرون كفرهم فيكذبهم الشهيد ، وقوله : { ثم لا يؤذن } ، أي : لا يؤذن لهم في المعذرة ، وهذا في موطن دون موطن ؛ لأن في القرآن أن : { كل نفس تأتي تجادل عن نفسها }{[7396]} [ النحل : 111 ] ، ويترتب أن تجيء كل نفس تجادل ، فإذا استقرتَ أقوالهم بعث الله الشهود من الأمم فتكذب الكفار ، فلم يؤذن للمكذبين بعد في معذرة ، و { يستعتبون } ، معناه : يعتبون ، يقال : أعتبت الرجل إذا كفيته ما عتب فيه ، كما تقول : أشكيته إذا كفيته ما شكا ، فكأنه قال : ولا هم يكفون ما يعتبون فيه ويشق عليهم ، والعرب تقول : استفعل ، بمعنى : أفعل ، تقول : أدنيت الرجل واستدنيته ، وقال قوم : معناه : لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدنيا{[7397]} .

قال القاضي أبو محمد : فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم ، وقال الطبري : معنى : { يستعتبون } ، يعطون الرجوع إلى الدنيا فيقع منهم توبة عمل{[7398]} .


[7396]:من الآية (111) من سورة (النحل).
[7397]:جاءت هذه العبارة في بعض النسخ كالآتي: "لا يشكون أن يرجعوا كما كانوا عليه في الدنيا".
[7398]:قال القرطبي: {ولاهم يستعتبون} يعني يسترضون، أي: لا يكلفون أن يرضوا ربهم؛ لأن الآخرة ليست بدار تكليف، ولا يتركون إلى رجوع الدنيا فيتوبون. ا هـ. وقال المهداوي: أصل الكلمة من العتب وهي الموجدة، يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه، فإذا فاوضه ما عتب عليه فيه قيل: عاتبه، فإذا رجع إلى مسرتك فقد أعتب، والاسم: العتبى، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب " ا هـ. وقال النابغة: فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب