التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ} (136)

ثم حكت السورة الكريمة نهايتهم الأليمة ، بسبب نقضهم لعهودهم ومواثيقهم في كل مرة ، وبسبب تكذيبهم لآيات الله . وعصيانهم لنبيهم موسى - عليه السلام - فقالت : { فانتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي اليم بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أى : فانتقمنا منهم عند بلوغ الأجل المضروب لإهلاكهم . بأن أغرقناهم في اليم - أى البحر - ، وذلك بسبب تكذيبهم لآياتنا الواضحة ، وحججنا الساطعة ، وكانوا عنها غافلين بحيث لا يتدبرونها ، ولا يتفكرون فيما تحمله من عظات وعبر .

والقرآن هنا يسوق حادث إغراق فرعون وملئه بصورة مجملة ، فلا يفصل خطواته كما فصلها في مواطن أخرى ، وذلك لأن المقام هنا هو مقام الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل ، فلا داعى إذن إلى طول العرض والتفصيل . إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس ، وأرهب للحس ، وأزجر للقلب ، وأدعى إلى العظة والاعبتار ، ولأن سورة الأعراف - كما سبق أن بينا - يغلب عليها هذا الأسلوب الذي يزلزل قلوب الطغاة ، ويغرس في النفوس الرهبه والخوف وهى تقص على الناس ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى مضى وصار تاريخا يعلمونه ويتحدثون عنه ، وهو ما حل بالأمم السابقة التي كذبت رسلها وعتت عن أمر ربها .

ثم وهى تحكى لهم ما أعد للمستكبرين من عذاب أخروى بسبب عصيانهم وانتهاكهم لحرمات الله .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ} (136)

103

ثم تجيء الخاتمة - وفق سنة الله في أخذ المكذبين بعد الابتلاء بالضراء والسراء - وتقع الواقعة . ويدمر الله على فرعون وملئه - بعد إذ أمهلهم وأجلهم إلى أجل هم بالغوه - ويحقق وعده للمستضعفين الصابرين ، بعد إهلاك الطغاة المتجبرين :

( فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم ، بأنهم كذبوا بآياتنا ، وكانوا عنها غافلين . وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ، ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه ، وما كانوا يعرشون ) . .

والسياق يختصر هنا في حادث الإغراق ، ولا يفصل أحداثه كما يفصلها في مواضع أخرى من السور . ذلك أن الجو هنا هو جو الأخذ الحاسم بعد الإمهال الطويل ؛ فلا يعرض لشيء من التفصيل . . إن الحسم السريع هنا أوقع في النفس وأرهب للحس !

فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم . .

ضربة واحدة ، فإذا هم هالكون . ومن التعالي والتطاول والاستكبار ، إلى الهويّ في الأعماق والأغوار ، جزاء وفاقاً :

( بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) . .

فيربط بين التكذيب بالآيات والغفلة عنها ، وبين هذا المصير المقدور . ويقرر أن الأحداث لا تجري مصادفة ، ولا تمضي فلتات عابرة ، كما يظن الغافلون !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ} (136)

يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا ، مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة ، [ أنه ]{[12082]} انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم ، وهو البحر الذي فرقه لموسى ، فجاوزه وبنو إسرائيل معه ، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم ، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم ، فغرقوا عن آخرهم ، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها .


[12082]:زيادة من أ.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَٱنتَقَمۡنَا مِنۡهُمۡ فَأَغۡرَقۡنَٰهُمۡ فِي ٱلۡيَمِّ بِأَنَّهُمۡ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَا وَكَانُواْ عَنۡهَا غَٰفِلِينَ} (136)

هذا محل العبرة من القصة ، فهو مفرع عليها تفريع النتيجة على المقدمات والفذلكة على القصة ، فإنه بعد أن وصف عناد فرعون وَمَلَئهِ وتكذيبَهم رسالة موسى واقتراحهم على موسى أن يجيء بآية ومشاهدتهم آية انقلاب العصا ثعباناً ، وتغيير لون يده ، ورميَهم موسى بالسحر ، وسوء المقصد ، ومعارضة السحرة معجزة موسى وتغلب موسى عليهم ، وكيف أخذ الله آل فرعون بمصائِب جعلها آيات على صدق موسى ، وكيف كابروا وعاندوا ، حتى ألْجِئوا إلى أن وعدوا موسى بالإيمان وتسريح بني إسرائيل معه وعاهدوه على ذلك ، فلما كشف عنهم الرجز نكثوا ، فأخبر الله بأن ذلك ترتب عليه استئصال المستكبرين المعاندين ، وتحريرُ المؤمنين الذين كانوا مستضعفين .

وذلك محل العبرة ، فلذلك كان الموقع في عطفه لفاء الترتيب والتسبب ، وقد اتبع في هذا الختام الأسلوبُ التي اختتمت به القصص التي قبل هذا .

والانتقام افتعال ، وهو العقوبة الشديدة الشبيهة بالنّقْم . وهو غضب الحنق على ذنْببِ اعتداء على المنتقمِ ينكر ويَكْرَه فاعلَه .

وأصل صيغة الافتعال أن تكون لمطاوعة فَعَل المتعدي بحيث يكون فاعل المطاوعة هو مفعول الفعل المجرد ، ولم يسمع أن قالوا نَقَمَه فانتقم . أي أحفظه وأغضبه فعاقب ، فهذه المطاوعة أميت فعلها المجردُ ، وعدوه إلى المعاقب بمن الابتدائية للدلالة على أنه منشأ العقوبة وسببها وأنه مستوجبها ، وتقدم الكلام على المجرد من هذا الفعل عند قوله تعالى آنفاً : { وما تَنَقم منا إلاّ أن آمنا بآيات ربنا } [ الأعراف : 126 ] .

وكان إغراقهم انتقاماً من الله لذاته لأنهم جحدوا انفراد الله بالإلاهية ، أو جحدوا إلاهيته أصلاً ، وانتقاماً أيضاً لبني إسرائيل لأن فرعون وقومه ظلموا بني إسرائيل وأذلوهم واستعبدوهم باطلاً .

والإغراقُ : الإلقاء في الماء المستبحر الذي يغمر المُلْقَى فلا يترك له تنفساً ، وهو بيان للانتقام وتفصيل لمجمله ، فالفاء في قوله : { فأغرقناهم } للترتيب الذكري ، وهو عطف مفصّل على مجمل كما في قوله تعالى : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتُلوا أنفسكم } [ البقرة : 54 ] .

وحَمَل صاحب « الكشاف » الفعل المعطوف عليه هنا على معنى العزم فيكون المعنى : فأرْدنا الانتقام منهم فأغرقناهم ، وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى : { فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم } في سورة البقرة ( 54 ) .

واليمّ : البحر والنهر العظيم ، قيل هو كلمة عربية . وهو صنيع « الكشاف » إذ جعله مشتقاً من التيمم لأنه يُقصد للمنتفعين به ، وقال بعضْ اللغويين : هو معرب عن السريانية وأصله فيها ( يَمّا ) وقال شَيْدَلَةُ : هو من القبطية ، وقال ابن الجوزي : هو من العبرية ، ولعله موجود في هذه اللغات . ولعل أصله عربي وأخذته لغات أخرى ساميّة من العربية والمراد به هنا بحر القُلْزُم ، المسمى في التوراة بحر سُوف ، وهو البحر الأحمر . وقد أطلق ( اليم ) على نهر النيل في قوله تعالى : { أن اقذفيه في التابوت فاقْذفيه في اليَمّ } [ طه : 39 ] وقوله : { فإذا خفتِ عليه فألقيه في اليمّ } [ القصص : 7 ] ، فالتعريف في قوله : { اليَمّ } هنا تعريف العهد الذهني عند علماء المعاني المعروف بتعريف الجنس عند النحاة إذ ليس في العبرة اهتمام ببحر مخصوص ولكن بفرد من هذا النوع .

وقد أغرق فرعون وجنده في البحر الأحمر حين لحق بني إسرائيل يريد صدهم عن الخروج من أرض مصر ، وتقدمت الإشارة إلى ذلك في سورة البقرة وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى : { حتى إذا أدركه الغرق } في سورة يونس ( 90 ) .

والباء في بأنهم } للسببية ، أي : أغرقناهم جزاء على تكذيبهم بالآيات .

والغفلة ذهول الذهن عن تذكر شيء ، وتقدمت في قوله تعالى : { وإن كنا عن دراستهم لغافلين } في سورة الأنعام ( 156 ) ، وأريد بها التغافل عن عمد وهو الإعراض عن التفكر في الآيات ، وإباية النظر في دلالتها على صدق موسى ، فإطلاق الغفلة على هذا مجاز ، وهذا تعريض بمشركي العرب في إعراضهم عن التفكر في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالة معجزة القرآن ، فلذلك أعيد التصريح بتسبب الإعراض في غرقهم مع استفادته من التفريع بالفاء في قوله : { فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم } تنبيهاً للسامعين للانتقال من القصة إلى العبرة .

وقد صيغ الإخبار عن إعراضهم بصيغة الجملة الاسمية للدلالة على أن هذا الإعراض ثابت لهم ، وراسخ فيهم ، وأنه هو علة التكذيب المصوغغِ خبرُه بصيغة الجملة الفعلية لإفادة تجدده عند تجدد الآيات .