وبعد هذا الوعيد الشديد لمن آذى الله ورسوله ، جاء وعيد آخر لمن آذى المؤمنين والمؤمنات ، فقال - تعالى - : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } .
أى : والذين يرتكبون فى حق المؤمنين والمؤمنات ما يؤذيهم فى أعراضهم أو فى أنفسهم أو فى غير ذلك مما يتعلق بهم ، دون أن يكون المؤمنون أو المؤمنات قد فعلوا ما يوجب أذاهم . .
{ فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أى : فقد ارتكبوا إثما شنيعا ، وفعلا قبيحا ، وذنبا ظاهرا بينا ، بسبب إذائهم للمؤمنين والمؤمنات .
وقال - سبحانه - هنا { بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } ولم يقل ذلك فى الآية السابقة عليها ، لأن الناس بطبيعتهم يدفع بعضهم بعضا ، ويعتدى بعضهم على بعض ، ويؤذى بعضهم بعضا ، أما الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا تصور منهما ذلك .
وجمع - سبحانه - فى ذمهم بين البهتان والاثم المبين ، للدلالة على فظاعة ما ارتكبوه فى حق المؤمنين والمؤمنات ، إذ البهتان هو الكذب الصرحي الذى لا تقبله العقول ، بل يحيرها ويدهشا لشدته وبعده عن الحقيقة .
والإِثم المبين : هو الذنب العظيم الظاهر البين ، الذى لا يخفى قبحه على أحد .
روى ابن أبى حاتم عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " " أى الربا أربى عند الله ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : أربى الربا عند الله ، استحلال عرض امرئ مسلم " " ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية .
ويستطرد كذلك إلى إيذاء المؤمنين والمؤمنات عامة . إيذاؤهم كذبا وبهتانا ، بنسبة ما ليس فيهم إليهم من النقائص والعيوب :
( والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا ، فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ) . .
وهذا التشديد يشي بأنه كان في المدينة يومذاك فريق يتولى هذا الكيد للمؤمنين والمؤمنات ، بنشر قالة السوء عنهم ، وتدبير المؤامرات لهم ، وإشاعة التهم ضدهم . وهو عام في كل زمان وفي كل مكان . والمؤمنون والمؤمنات عرضة لمثل هذا الكيد في كل بيئة من الأشرار المنحرفين ، والمنافقين ، والذين في قلوبهم مرض . والله يتولى عنهم الرد على ذلك الكيد ، ويصم أعداءهم بالإثم والبهتان . وهو أصدق القائلين .
وقوله : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أي : ينسبون إليهم ما هم بُرَآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه ، { فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه ، على سبيل العيب والتنقص{[24036]} لهم ، ومَنْ أكثر مَنْ يدخل في هذا الوعيد الكفرةُ بالله ورسوله{[24037]} ، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد بَرَّأهم الله منه ، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم ؛ فإن الله ، عز وجل ، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم ، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم{[24038]} ، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا ، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب{[24039]} يذمون الممدوحين ، ويمدحون المذمومين .
وقال{[24040]} أبو داود : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز - يعني : ابن محمد - عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أنه قيل : يا رسول الله ، ما الغيبة ؟ قال : " ذكرُكَ أخاك بما يكره " . قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : " إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه " .
وهكذا رواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الدراوردي ، به . قال : حسن صحيح{[24041]} .
وقد قال{[24042]} ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سلمة ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن عمار بن أنس ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن عائشة ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : " أيُّ الربا أربى عند الله ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أربى الربا عند الله استحلالُ عرض امرئ مسلم " ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا }{[24043]} .
وإذاية المؤمنين والمؤمنات هي أيضاً بالأفعال والأقوال القبيحة والبهتان والكذب الفاحش المختلف ، وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال يوماً لأبيّ بن كعب : إني قرأت هذه الآية البارحة ففزعت منها { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات } الآية .
والله إني لأضربهم وأنهرهم ، فقال له : اي يا أمير المؤمنين لست منهم إنما أنت معلم ومقوم ، وذكر أبو حاتم أن عمر بن الخطاب قرأ «إن الذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات » ثم قال يا أبي كيف تقرأ هذه الآية فقرأها كما قال عمر .
ألحقت حُرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويهاً بشأنهم ، وذكروا على حدة للإِشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام . وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حُرمة النبي صلى الله عليه وسلم وآداب أزواجه وبناته والمؤمنات .
وعطف { المؤمنات } على { المؤمنين } للتصريح بمساواة الحكم وإن كان ذلك معلوماً من الشريعة ، لوَزْع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم .
والمراد بالأذى : أذى القول بقرينة قوله : { فقد احتملوا بهتاناً } لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم ، وأتبع ذلك التحقير بأنه إثم مبين . والمراد بالمبين العظيم القوي ، أي جُرماً من أشد الجرم ، وهو وعيد بالعقاب عليه .
وضمير { اكتسبوا } عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب ، والمجرور في موضع الحال . وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب .
وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا ، أي أن يُسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولاً لعموم الناس ولكنه موكول إلى ولاة الأمور كما قال تعالى : { واللذان يأتيانها منكم فآذوهما } [ النساء : 16 ] . وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغِيبة وقال : « هي أن تذكر أخاك بما يكره . فقيل : وإن كان حقاً . قال : إن كان غير حق فذلك البهتان » فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى .
وما صْدَق الموصول في قوله : { ما اكتسبوا } سيّئاً ، أي بغير ما اكتسبوا من سيّىء . ومعنى { احتملوا } كَلَّفوا أنفسهم حَملاً ، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمَل بهتاناً وإثماً مبيناً } في سورة النساء ( 112 ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.