قبل أن تذكر السورة القسم القسم الرابع من أقسام المؤمنين ، تتحدث عن ولاية الكفار بعضهم لبعض فتقول : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } .
أى : والذين كفروا بعضهم أولياء بعض في النصرة والتعاون على قتالاكم وإيذائكم - أيها المؤمنون - فهم وإن اختلفوا فيما بينهم إلا أنهم يتفقون على عداوتكم وإنزال الأضرار بكم .
وقوله : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } تحذير شديد للمؤمنين عن مخالفة أمره - سبحانه - .
أى : إلا تفعلوا - أيها المؤمنون - ما أمرتكم به من التناصر والتواصل وتولى بعضكم بعضا ، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ، تحصل فتنة كبيرة في الأرض ، ومفسدة شديدة فيها ، لأنكم إذا لم تصيروا يداً واحدة على الشرك ، يضعف شأنكم ، وتذهب ريحكم ، وتسفك دماؤكم ويتطاول أعداؤكم عليكم ، وتصيرون عاجزين عن الدفاع عن دينكم وعرضكم . . . وبذلك تعم الفتنة ، وينتشر الفساد .
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد ، فكذلك المجتمع الجاهلي :
( والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ) . .
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا . إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد ؛ إنما يتحرك ككائن عضوي ، تندفع أعضاؤه ، بطبيعة وجوده وتكوينه ، للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه . فهم بعضهم أولياء بعض طبعاً وحكماً . . ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص ، ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى . فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض ، فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفراداً - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده . ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام ؛ وطغيان ألوهية العباد على ألوهية الله ؛ ووقوع الناس عبيداً للعباد مرة أخرى . وهو أفسد الفساد :
( إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير ) . .
ولا يكون بعد هذا النذير نذير ، ولا بعد هذا التحذير تحذير . . والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة ، يتحملون أمام الله - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض ، وتبعة هذا الفساد الكبير
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضُهم أولياء بعض ، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار ، كما قال الحاكم في مستدركه :
حدثنا محمد بن صالح بن هانئ ، حدثنا أبو سعد{[13199]} يحيى بن منصور الهروي ، حدثنا محمد بن أبان ، حدثنا محمد بن يزيد وسفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن علي بن الحسين ، عن عمرو بن عثمان ، عن أسامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث مسلم كافرًا ، ولا كافر مسلما " ، ثم قرأ : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه{[13200]}
قلت : الحديث في الصحيحين من رواية أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " {[13201]} وفي المسند والسنن ، من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يتوارث أهل ملتين شتى " {[13202]} وقال الترمذي : حسن صحيح .
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا محمد ، [ عن محمد بن ثور ]{[13203]} عن معمر ، عن الزهري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال : " تقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان ، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت له حرب " {[13204]}
وهذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روي متصلا من وجه آخر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه قال : " أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين " ، ثم قال : " لا يتراءى ناراهما " {[13205]}
وقال أبو داود في آخر كتاب الجهاد : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، أخبرني يحيى بن حسان ، أنبأنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سَمُرَة بن جُنْدُب [ حدثني خبيب بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن سمرة ]{[13206]} عن سمرة بن جندب : أما بعد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " {[13207]}
وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث حاتم بن إسماعيل ، عن عبد الله بن هرمز ، عن محمد وسعيد ابنى عبيد ، عن أبي حاتم{[13208]} المزني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتاكم من تَرْضون دينه وخلقه فأنكحوه إلا تفعلوا{[13209]} تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " . قالوا : يا رسول الله ، وإن كان ؟ قال : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " ثلاث مرات .
وأخرجه أبو داود والترمذي ، من حديث حاتم بن إسماعيل ، به بنحوه{[13210]}
ثم رُويَ من حديث عبد الحميد بن سليمان ، عن ابن{[13211]} عَجْلان ، عن ابن وَثيمةَ النَّصْري{[13212]} عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه ، إلا تفعلوا{[13213]} تكن فتنة في الأرض وفساد عريض " {[13214]}
ومعنى قوله تعالى : { إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي : إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين ، وإلا وقعت الفتنة في الناس ، وهو التباس الأمر ، واختلاط المؤمن بالكافر ، فيقع بين الناس فساد منتشر طويل عريض .
هذا حكم بأن الكفار ولايتهم واحدة ، وذلك بجمع الموارثة والمعاونة والنصرة ، وهذه العبارة ترغيب وإقامة للنفوس ، كما تقول لمن تريد أن يستضلع{[5490]} : عدوك مجتهد ، أي فاجتهد أنت ، وحكى الطبري في تفسير هذه الآية عن قتادة أنه قال : أبى الله أن يقبل إيمان من آمن ولم يهاجر ، وذلك في صدر الإسلام ، وذلك أيضاً مذكور مستوعب في تفسير قوله عز وجل : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً }{[5491]} .
والذي يظهر من الشرع أن حكم المؤمن التارك للهجرة مع علمه بوجوبها حكم العاصي لا حكم الكافر ، وقوله تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } [ النساء : 97 ] إنما هي فيمن قتل مع الكفار ، وفيهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا بريء من مسلم أقام بين المشركين لا تراءى ناراهما » الحديث{[5492]} على اختلاف ألفاظه وقول قتادة إنما هو فيمن كان يقوم متربصاً يقول من غلب كنت معه ، وكذلك ذكر في كتاب الطبري والكشي ، والضمير في قوله { إلا تفعلوه } قيل هو عائد على الموارثة والتزامها .
قال القاضي أبو محمد : وهذا لا تقع الفتنة عنه إلا عن بعد وبوساطة كثيرة ، وقيل هو عائد على المؤازرة والمعاونة واتصال الأيدي ، وهذا تقع الفتنة عنه عن قرب فهو آكد من الأول ، ويظهر أيضاً عوده على حفظ العهد والميثاق الذي يتضمنه { إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } [ الأنفال : 72 ] وهذا إن لم يفعل فهي الفتنة نفسها ، ويظهر أن يعود الضمير على النصر للمسلمين المستنصرين في الدين ، ويجوز أن يعود الضمير مجملاً على جميع ما ذكر ، والفتنة المحنة بالحرب وما أنجز معها من الغارات والجلاء والأسر ، و «الفساد الكبير » ظهور الشرك ، وقرأ جمهور الناس «كبير » بالباء المنقوطة واحدة ، وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي بالثاء منقوطة مثلثة وروى أبو حاتم المدني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ «وفساد عريض » ، وقرأت فرقة «والذين كفروا بعضهم أولى ببعض » .
هذا بيان لحكم القسم المقابل لقوله : { إن الذين آمنوا وهاجروا } [ الأنفال : 72 ] وما عطف عليه . والواو للتقسيم والإخبار عنهم بأنّ بعضهم أولياء بعض خبر مستعمل في مدلوله الكنائي : وهو أنّهم ليسوا بأولياء للمسلمين ، لأنّ الإخبار عن ولاية بعضهم بعضاً ليس صريحة ممّا يهمّ المسلمين لولا أنّ القصد النهي عن موالاة المسلمين إيّاهم ، وبقرينة قوله : { إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير } أي : إنْ لا تفعلوا قطع الولاية معهم ، فضمير تفعلوه عائِد إلى ما في قوله : { بعضهم أولياء بعض } بتأويل : المذكور ، لظهور أنْ ليس المراد تكليف المسلمين بأن ينفذوا ولاية الذين كفروا بعضهم بعضاً ، لولا أنّ المقصود لازم ذلك وهو عدم موالاة المسلمين إيّاهم .
والفتنة اختلال أحوال الناس ، وقد مضى القول فيها عند قوله : { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [ البقرة : 102 ] وقوله { والفتنة أشد من القتل } في سورة [ البقرة : 191 ] ، وقد تقدّم القول فيها آنفاً في هذه السورة .
والفتنة تحصل من مخالطَة المسلمين مع المشركين ، لأنّ الناس كانوا قريبي عهد بالإسلام ، وكانت لهم مع المشركين أواصر قرابة وولاء ومودّة ومصاهرة ومخالطة ، وقد كان إسلام من أسلم مثيراً لحنق المشركين عليه ، فإذا لم ينقطع المسلمون عن موالاة المشركين يخشى على ضعفاء النفوس من المسلمين أن تجذبهم تلك الأواصر وتفتنهم قوة المشركين وعزّتهم ، ويقذف بها الشيطان في نفوسهم ، فيحِنّوا إلى المشركين ويعودوا إلى الكفر . فكان إيجاب مقاطعتهم ؛ لقصد قطع نفوسهم عن تذكّر تلك الصلات ، وإنسائهم تلك الأحوال ، بحيث لا يشاهدون إلاّ حال جماعة المسلمين ، ولا يشتغلوا إلاّ بما يقوّيها ، وليكونوا في مزاولتهم أمور الإسلام عن تفرّغ بال من تحسّر أو تعطّف على المشركين ، فإنّ الوسائل قد يسري بعضها إلى بعض ، فتفضي وسائل الرأفة والقرابة إلى وسائل الموافقة في الرأي ، فلذا كان هذا حسماً لوسائل الفتنة .
والتعريف في الأرض } للعهد والمراد أرض المسلمين .
و« الفساد » ضدّ الصلاح ، وقد مضى عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .
والكبير حقيقته العظيم الجسم . وهو هنا مستعار للشديد القوي من نوعه مثل قوله تعالى : { كبرت كلمة تخرج من أفواههم } [ الكهف : 5 ] .
والمراد بالفساد هنا : ضد صلاح اجتماع الكلمة ، فإنّ المسلمين إذا لم يظهروا يدا واحدة على أهل الكفر لم تظهر شوكتهم ، ولأنّه قد يحدث بينهم الاختلاف من جرّاء اختلافهم في مقدار مواصلتهم للمشركين ، ويرمي بعضهم بعضاً بالكفر أو النفاق ، وذلك يفضي إلى تفرّق جماعتهم ، وهذا فساد كبير ، ولأنّ المقصود إيجاد الجامعة الإسلامية ، وإنّما يظهر كمالها بالتفاف أهلها التفافاً واحداً ، وتجنّب ما يضادها ، فإذا لم يقع ذلك ضعف شأن جامعتهم في المرأى وفي القوة . وذلك فساد كبير .