ثم بين - سبحانه - الدوافع التي حملت هؤلاء الفاسقين من أهل الكتاب على ولاية الكافرين ومصادقتهم ومعاونتهم على حرب المسلمين فقال :
{ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
فالضمير في قوله : { كانوا } يعود إلى أولئك الكثيرين من أهل الكتاب الذين حملهم حقدهم وبغضهم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأتباعه على موالاة الكافرين .
والمراد - هنا - بالنبي : موسى - عليه السلام - وبما أنزل إليه التوراة ، لأن الحديث مع الكافرين من بني إسرائيل الذين يزعمون أنهم من أتباع موسى .
وقيل المراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بما أُنزل إليه : القرآن .
أي : ولو كان هؤلاء اليهود يؤمنون بالله إيمانا حقا ، ويؤمنون بنبيهم موسى إيمانا صادقا ويؤمنون بالتوارة التي أنزلها الله عليه إيمانا سليما ، لو كانوا مؤمنين هذا الإِيمان الصادق ، لكفوا عن اتخاذ الكافرين أولياء وأصفياء ، لأن تحريم موالاة المشركين متأكدة في التوراة وفي كل شريعة أنزلها الله على نبي من أنبيائه .
وقوله : { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } استدارك لبيان حالهم ، ولبيان سبب موالاتهم للكافرين وعدواتهم للمسلمين .
أي : ولكن كثيراً من هؤلاء اليهود فاسقون ، أي : خارجون عن الدين الحق إلى الأديان الباطلة ، فدفعهم هذا الفسق ، وما صاحبه من حقد وعناد على موالاة الكافرين ومعاداة المؤمنين .
وقد كرر سبحانه وصف الكثيرين منهم بالصفات الذميمة ، إنصافا للقلة التي آمنت وتمييزا لها عن تلك الكثرة الكافرة الفاسقة . .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد بينت ما عليه الكافرين من بني إسرائيل من صفات ذميمة ، أفضت إلى لعنهم وطردهم من رحمة الله ، حتى يحذرهم المسلمون ويجتنبوا سلوكهم السيء ، وخلقهم القبيح .
وبعد هذا الحديث الطويل الذي طوفت فيه سورة المائدة مع أهل الكتاب بصفة عامة ومع اليهود بصفة خاصة ، والذي تحدثت خلاله عن علاقة المؤمنين بهم وعن العهود التي أخذها الله عليهم وموقفهم نمها ، وعن دعاواهم الباطلة وكيف در القرآن عليها ، وعن أخلاقهم السيئة ، وعن مسالكهم الخبيثة ليكد الإِسلام والمسلمين ، وعن المصير السيء الذي ينتظرهم إذا ما استمروا على كفرهم وضلالهم ، وعن المنهاج القويم الذي استعمله القرآن معهم في دعوتهم إلى الدين الحق ، بعد هذا الحديث الطويل معهم في تلك الموضوعات وفي غيرها نرى السورة الكريمة في نهاية المطاف تحدثنا عن اشد الناس عداوة للمؤمنين وعن أقربهم مودة لهم فتقول :
وما الدافع ؟ ما دافع القوم لتولي الذين كفروا ؟ إنه عدم الإيمان بالله والنبي :
( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . ولكن كثيرا منهم فاسقون ) . .
هذه هي العلة . . إنهم لم يؤمنوا بالله والنبي . . إن كثرتهم فاسقة . . إنهم يتجانسون - إذن - مع الذين كفروا في الشعور والوجهة ؛ فلا جرم يتولون الذين كفروا ولا يتولون المؤمنين . .
وتبرز لنا من هذا التعقيب القرآني ثلاث حقائق بارزة :
الحقيقة الأولى : أن أهل الكتاب جميعا - إلا القلة التي آمنت بمحمد [ ص ] غير مؤمنين بالله . لأنهم لم يؤمنوا برسوله الأخير . ولم ينف القرآن الكريم عنهم الإيمان بالنبي وحده . بل نفى عنهم الإيمان بالله كذلك . ( ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ) وهو تقرير من الله - سبحانه - لا يقبل التأويل . مهما تكن دعواهم في الإيمان بالله . . وبخاصة إذا اعتبرنا ما هم عليه من انحراف التصور للحقيقة الإلهية كما سلف في آيات هذا الدرس وفي غيرها من آيات القرآن الكريم .
والحقيقة الثانية : أن أهل الكتاب جميعا مدعوون إلى الدخول في دين الله ، على لسان محمد [ ص ] فإن استجابوا فقد أمنوا ، وأصبحوا على دين الله . وإن تولوا فهم كما وصفهم الله .
والحقيقة الثالثة : أنه لا ولاء ولا تناصر بينهم وبين المسلمين ، في شأن من الشئون . لأن كل شأن من شئون الحياة عند المسلم خاضع لأمر الدين .
ويبقى أن الإسلام يأمر أهله بالإحسان إلى أهل الكتاب في العشرة والسلوك ؛ وبحماية أرواحهم وأموالهم وأعراضهم في دار الإسلام ؛ وبتركهم إلى ما هم فيه من عقائدهم كائنة ما تكون ؛ وإلى دعوتهم بالحسنى إلى الإسلام ومجادلتهم بالحسنى كذلك . والوفاء لهم - ما وفوا - بعهدهم ومسالمتهم للمسلمين . . وهم - في أية حال - لا يكرهون على شيء في أمر الدين . .
ثم قال تعالى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } أي : لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان{[10194]} لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن ، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه { وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله .
قوله : { ولو كانوا يؤمنون بالله والنّبيء } إلخ الواو للحال من قوله : { ترى كثيراً منهم } باعتبار كون المراد بهم المتظاهرين بالإسلام بقرينة ما تقدّم ، فالمعنى : ولو كانوا يؤمنون إيماناً صادقاً ما تّخذوا المشركين أولياء . والمراد بالنّبيء محمّد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه القرآن ، وذلك لأنّ النّبيء نهَى المؤمنين عن موالاة المشركين ، والقرآن نهى عن ذلك في غير ما آية . وقد تقدّم في قوله : { لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] . وقد جعل موالاتهم للمشركين علامة على عدم إيمانهم بطريقة القياس الاستثنائي ، لأنّ المشركين أعداء الرّسول فموالاتهم لهم علامة على عدم الإيمان به . وقد تقدّم ذلك في سورة آل عمران .
وقوله : { ولكنّ كثيراً منهم فاسقون } هو استثناء القياس ، أي ولكنّ كثيراً من بني إسرائيل { فاسقون } . فالضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير { ترى كثيراً منهم } و { فاسقون } كافرون ، فلا عَجَب في موالاتهم المشركين لاتّحادهم في مناواة الإسلام . فالمراد بالكثير في قوله : { ولكنّ كثيراً منهم فاسقون } عين المراد من قوله { ترى كثيراً منهم يتولّون الّذين كفروا } فقد أعيدت النكرة نكرة وهي عين الأولى إذ ليس يلزم إعادتها معرفة . ألا ترى قوله تعالى : { فإنّ مع العسر يسراً إنّ مع العسر يسراً } [ الشرح : 5 ، 6 ] . وليس ضمير { منهم } عائداً إلى { كثيراً } إذ ليس المراد أنّ الكثير من الكثير فاسقون بل المراد كلّهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.