ثم بين - سبحانه - جانباً من مظاهر نعمه على عباده فقال - تعالى - { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً . . . }
أى : الله وحده - سبحانه - هو الذي جعل لكم الليل مظلماً ، لكي تستقروا فيه بعد طول الحركة في نهاركم من أجل معاشكم ، وهو الذي جعل لكم النهار مضيئا لكي تبصروا فيه مطالب حياتكم .
والجملة الكريمة بيان لمظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده ، بعد بيان سعة علمه ، ونفاذ قدرته ، وشمولها لكل شيء في هذا الكون .
وقوله : { إِنَّ في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أى : إن في ذلك الجعل المذكور لدلائل واضحات لقوم يسمعون ما يتلى عليهم سماع تدبر وتعقل ، يدل على سعة رحمة الله - تعالى - بعباده ، وتفضله عليهم بالنعم التي لا تحصى .
ثم لفتة إلى بعض مجالي القدرة في المشاهد الكونية التي يغفل عنها الناس بالتكرار : ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً . إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون )
والمالك للحركة وللسكون ، الذي يجعل الليل ليسكن فيه الناس ، ويجعل النهار مبصراً يقود الناس فيتحركون ! ويبصرهم فيبصرون . . ممسك بمقاليد الحركة والسكون ، قادر على الناس ، قادر على حماية أوليائه من الناس . ورسوله - [ ص ] - في مقدمة أوليائه . ومن معه من المؤمنين . .
( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) . .
والمنهج القرآني يستخدم المشاهد الكونية كثيراً في معرض الحديث عن قضية الألوهية والعبودية . ذلك أن هذا الكون بوجوده وبمشاهده شاهد ناطق للفطرة لا تملك لمنطقة رداً . كذلك يخاطب الناس بما في علاقتهم بهذا الكون من تناسق . وهم يجدون هذا في حياتهم فعلاً .
فهذا الليل الذي يسكنون فيه ، وهذا النهار الذي يبصرون به ، هما ظاهرتان كونيتان شديدتا الاتصال بحياتهم . وتناسق هذه الظواهر الكونية مع حياة الناس يحسونه هم - ولو لم يتعمقوا في البحث و " العلم " .
ذلك أن فطرتهم الداخلية تفهم عن هذا الكون لغته الخفية !
وهكذا لم يكن البشر في عماية عن لغة الكون حتى جاءتهم " العلوم الحديثة ! " لقد كانوا يفهمون هذه اللغة بكينونتهم كلها . ومن ثم خاطبهم بها العليم الخبير منذ تلك القرون . وهي لغة متجددة بتجدد المعرفة ، وكلما ارتقى الناس في المعرفة كانوا أقدر على فهمها ، متى تفتحت قلوبهم بالإيمان ونظرت بنور اللّه في هذه الآفاق !
والافتراء على اللّه بالشركاء يكون بنسبة ولد للّه - سبحانه - وقد كان مشركو العرب يزعمون أن الملائكة بنات اللّه .
ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه ، أي : يستريحون فيه من نَصَبهم وكلالهم وحَرَكاتهم ، { وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا } أي : مضيئا لمعاشهم وسعيهم ، وأسفارهم ومصالحهم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي : يسمعون هذه الحجج والأدلة ، فيعتبرون{[14330]} بها ، ويستدلون على عظمة خالقها ، ومقدرها ومسيرها .
لما نص عظمة الله تعالى في الآية المتقدمة عقب ذلك في هذه بالتنبيه على أفعاله لتبين العظمة المحكوم بها قبل ، وقوله { لتسكنوا } دال على أن النهار للحركة والتصرف ، وكذلك هو في الوجود ، وذلك أن حركة الليل متعذرة بفقد الضوء ، وقوله { والنهار مبصراً } مجاز لأن النهار لا يبصر ولكنه ظرف للإبصار ، وهذا موجود في كلام العرب إذ المقصود من ذلك مفهوم ، فمن ذلك قول ذي الرمة : [ الطويل ]
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى*** ونمت وما ليل المطي بنائم{[6161]}
وليس هذا من باب النسب كعيشة راضية ونحوها . وإنما ذلك مثل قول الشاعر : [ الكامل ]
أما النهار ففي قيد وسلسلة*** والليل في بيت منحوت من الساج{[6162]}
فجعل الليل والنهار بهاتين الحالتين وليس يريد إلا أنه هو فيهما كذلك ، وهذا البيت لمسجون كان يبيت في خشبة السجن ، وعلى أن هذا البيت قد ينشد «أما النهار » بالنصب ، وفي هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع لأن العبرة هي في أن الليل مظلم يسكن فيه والنهار مبصر يتصرف فيه ، فذكر طرف من هذا والطرف الآخر من الجهة الثانية ودل المذكوران على المتروكين ، وهذا كما في قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع }{[6163]} . وقوله { يسمعون } يريد ويعون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.