ثم ختم - سبحانه - الحديث عن هؤلاء الأنبياء ، بتوجيه خطاب إلى الرسل جميعاً ، أمرهم فيه بالأكل من الطيبات ، وبالتزود من العمل الصالح ، فقال - تعالى - : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .
ووجه - سبحانه - الخطاب إلى الرسل جميعاً ، مع أن الموجود منهم عند نزول الآية واحد فقط ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم للدلالة على أن كل رسول أمر فى زمنه بالأكل من الطيبات التى أحلها - تعالى - وبالعمل الصالح .
وفى اية غشارة إلى أن المداومة على الأكل من الطيبات التى أحلها الله ، والتى لا شبهة فيها ، له أثره فى مواظبة الإنسان على العمل الصالح .
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية : يأمر الله - تعالى - عباده المرسلين بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذاعلى أن الحلال عون على العمل الصاحل ، فقام الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بهذا أتم قيام ، وجمعوا بين كل خير . قولاً وعملاً . ودلالة ونصحاً .
ثم ساق - رحمه الله - عدداً من الأحاديث فى هذا المعنى منها : أن أم عبد الله - بنت شداد بن أوس - " بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك مع طول النهار وشدة الحر . فرد إليها رسولها : أنّى كانت لك الشاة ؟ - أى : على أية حال تملكينها - فقالت : اشتريتها من مالى ، فشرب منه ، فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت له : يا رسول الله . بعثتث إليك بلبن مرثية لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إلىّ الرسول فيه ؟ فقال لها : " بذلك أمرت الرسل . أن لا تأكل إلا طيبًا ولا تعمل إلا صالحاً " " .
ومنها : ما ثبت فى صحيح مسلم ، عن أبى هريرة - رضى الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً } وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، ومطعمه من حرام . ومشربه من حرام ، وملبسه من حرام ، وغذى بالحرام . يمد يديه إلى السماء : يارب يا رب فأنى يستحاب لذلك " .
وقوله - سبحانه - : { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } تحذير من مخالفة ما أمر به - تعالى .
أى : إنى بما تعملون - أيها الرسل وأيها الناس - عليم فأجازيكم على هذا العمل بما تستحقون .
وعندما يصل إلى هذه الحلقة من سلسلة الرسالات ، يتوجه بالخطاب إلى أمة الرسل ؛ وكأنما هم متجمعون في صعيد واحد ، في وقت واحد ، فهذه الفوارق الزمانية والمكانية لا اعتبار لها أمام وحدة الحقيقة التي تربط بينهم جميعا :
( يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا . إني بما تعملون عليم . وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) . .
إنه نداء للرسل ليمارسوا طبيعتهم البشرية التي ينكرها عليهم الغافلون : ( كلوا من الطيبات ) . . فالأكل من مقتضيات البشرية عامة ، أما الأكل من الطيبات خاصة فهو الذي يرفع هذه البشرية ويزكيها ويصلها بالملأ الأعلى .
ونداء لهم ليصلحوا في هذه الأرض : ( واعملوا صالحا ) . . فالعمل هو من مقتضيات البشرية كذلك . أما العمل الصالح فهو الذي يميز الصالحين المختارين ؛ فيجعل لعملهم ضابطا وهدفا ، وغاية موصولة بالملأ الأعلى .
وليس المطلوب من الرسول أن يتجرد من بشريته . إنما المطلوب أن يرتقي بهذه البشرية فيه إلى أفقها الكريم الوضيء . الذي أراده الله لها ، وجعل الأنبياء روادا لهذا الأفق ومثلا أعلى . والله هو الذي يقدر عملهم بعد ذلك بميزانه الدقيق : ( إني بما تعملون عليم ) .
يأمر تعالى عباده المرسلين ، عليهم الصلاة والسلام أجمعين ، بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عَون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء ، عليهم السلام ، بهذا أتم القيام . وجمعوا بين كل خير ، قولا وعملا ودلالة ونصحًا ، فجزاهم الله عن العباد خيرًا .
قال الحسن البصري في قوله : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } قال : أما والله ما أُمِرُوا بأصفركم ولا أحمركم ، ولا حلوكم ولا حامضكم ، ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه .
وقال سعيد بن جبير ، والضحاك : { كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } يعني : الحلال .
وقال أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي مَيْسَرَةَ بن شُرَحْبِيل : كان عيسى ابن مريم يأكل من غزل أمه .
وفي الصحيح : " ما من نبي إلا رعى الغنم " . قالوا : وأنت يا رسول الله ؟ قال : " نعم ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة " {[20557]} .
وفي الصحيح : أن داود ، عليه السلام ، كان يأكل من كسب يده{[20558]} .
وفي الصحيحين : " إن أحب الصيام إلى الله صيام داود ، وأحب القيام إلى الله قيام داود ، كان{[20559]} ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سُدسَه ، وكان يصوم يومًا ويفطر يومًا ، ولا يَفر إذا لاقى " . {[20560]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضَمْرَة بن حبيب ، أن أم عبد الله ، أخت{[20561]} شداد بن{[20562]} أوس بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم ، وذلك في أول النهار وشدة الحر ، فرد إليها رسولها : أنَّى كانت لك الشاة ؟ فقالت : اشتريتها من مالي ، فشرب منه ، فلما كان الغد أتته أم عبد الله أخت{[20563]} شداد فقالت : يا رسول الله{[20564]} ، بعثتُ إليك بلبن مَرثيةً{[20565]} لك من طول النهار وشدة الحر ، فرددت إليَّ الرسول فيه ؟ . فقال لها : " بذلك أمرت الرسل ، ألا تأكل إلا طيبا ، ولا تعمل إلا صالحا " {[20566]} .
وقد ثبت في صحيح مسلم ، وجامع الترمذي ، ومسند الإمام أحمد - واللفظ له - من حديث فُضَيْل بن مرزوق ، عن عَدِيّ بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس ، إنَّ الله طَيِّبٌ لا يقبل إلا طيبا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] . ثم ذكر الرجل يطيل السفر أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذِّي بالحرام ، يمد يديه إلى السماء : يا رب ، يا رب ، فأنَّى يستجاب لذلك " {[20567]} .
وقال الترمذي : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث فُضيل بن مرزوق .
{ يا أيها الرسل كلوا من الطيبات } نداء وخطاب لجميع الأنبياء لا على أنهم خوطبوا بذلك دفعه لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة بل على معنى أ كلا منهم خوطب به في زمانه ، فيدخل تحته عيسى دخولا أوليا ويكون ابتداء كلام تنبيها على أن تهيئة أسباب التنعم لم تكن له خاصة ، وأن إباحة الطيبات للأنبياء شرع قديم واحتجاجا على الرهبانية في رفض الطيبات ، أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا . وقيل النداء له ولفظ الجمع للتعظيم والطيبات ما يستلذ به من المباحات . وقيل الحلال الصافي القوام فالحلال ما لا يعصى الله فيه والصافي ما لا ينسى الله فيه والقوام ما يمسك النفس ويحفظ العقل . { واعملوا صالحا } فإنه المقصود منكم والنافع عند ربكم . { إني بما تعملون عليم } فأجازيكم عليه .