التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (6)

وبعد أن بين القرآن ما أصاب الظالمين من عذاب دنيوى .

عقبه ببيان ما سيحل بهم من عذاب أخروى ، فقال :

{ فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } .

والمراد بالذين أرسل إليهم جميع الأمم التي بلغتها دعوة الرسل ، يسأل كل فرد منها عن رسوله إليه وعن تبليغه لدعوة الله ، ويسأل المرسلون عن التبليغ منهم وعن إجابة أقوامهم لهم ، وقد ورد ذلك في كثير من آيات القرآن . قال - تعالى - : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } وقال تعالى : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } والمعنى : فلنسألن المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم الذين جاءوا لهدايتهم ، ولنسألن المرسلين عما أجيبوا به من أقوامهم وعن تبليغهم لرسالات الله ، ولنقصن على الرسل والمرسل إليهم كل ما وقع منهم عن علم دقيق وإحصاء شامل ، لأننا لا يغيب عنا شىء من أحوالهم .

وعطفت جملة { فَلَنَسْأَلَنَّ } على ما قبلها بالفاء ، لأن هذا السؤال سيكون في الآخرة ، وما ذكر قبل ذلك من عقوبات هو آخر أمرهم في الدنيا . فالآية الكريمة بيان لعذابهم الأخروى إثر بيان عذابهم الدنيوى .

وأكد الخبر بلام القسم ونون التوكيد ، لأن المخاطبين كانوا ينكرون البعث والجزاء .

فإن قيل : قد أخبر الله عنهم قبل ذلك أنهم قالوا عند نزول العذاب بهم { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } فلماذا يسألون يوم القيامة مع أنهم اعترفوا بظلمهم في الدنيا ؟

فالجواب : أنهم لما اعترفوا سئلوا بعد ذلك عن سبب هذا الظلم ، والمقصود من هذا السؤال تقريعهم وتوبيخهم لكفرهم وعنادهم .

فإن قيل : فما فائدة سؤال الرسل مع العلم بأنهم قد بلغوا الأمانة ونصحوا للأمة ؟

فالجواب من فوائده الرد على من أنكر من المشركين أن الرسل قد بلغوهم ، فقد حكى القرآن أن بعضهم قال : { مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } ومن فوائده - أيضاً - مضاعفة الثواب لهؤلاء الرسل الكرام حيث إنهم قد بذلوا قصارى جهدهم في التبشير والإنذار ، ولم يصدر عنهم تقصير قط . فسؤال المرسل إليهم إنما هو سؤال توبيخ وإفضاح ، وسؤال المرسلين إنما هو سؤال استشهاد بهم وإفصاح .

فإن قيل : هناك بعض الآيات تثبت أن المجرمين لن يسألوا يوم القيامة كما في قوله تعالى : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } وكما في قوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } فكيف نجمع بين هذه الآيات الت تنفى السؤال

والآيات التي تثبته كما في قوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } .

فالجواب ، أن في يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون في موقف الحساب ولا يسألون في موقف العقاب .

أو أن المراد بالسؤال في قوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين } التوبيخ والتقريع . والمنفى في قوله : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ } سؤال الاستعلام ، أى أن المذنب لا يسأل يوم القيامة هل أذنبت أو لا ، لأن الله لا تخفى عليه خافية ، وإنما يسأل : لم فعلت كذا ؟ بعد أن يعرفه - سبحانه - بما فعله ،

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (6)

بينما المشهد هكذا معروضاً في الدنيا إذا السياق ينتقل ، وينقل معه السامعين من فوره إلى ساحة الآخرة . بلا توقف ولا فاصل . فالشريط المعروض موصول المشاهد ، والنقلة تتخطى الزمان والمكان ، وتصل الدنيا بالآخرة ، وتلحق عذاب الدنيا بعذاب الآخرة ؛ وإذا الموقف هناك في لمحة خاطفة :

( فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم ، وما كنا غائبين . والوزن يومئذ الحق . فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون . ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون ) . .

إن التعبير على هذا النحو المصور الموحي ، خاصية من خواص القرآن . . إن الرحلة في الأرض كلها تطوى في لمحة . وفي سطر من كتاب . لتلتحم الدنيا بالآخرة ؛ ويتصل البدء بالختام !

فإذا وقف هؤلاء الذين تعرضوا لبأس الله في هذه الأرض وقفتهم هناك للسؤال والحساب والجزاء ، فإنه لا يكتفى باعترافهم ذاك حين واجهوا بأس الله الذي أخذهم وهم غارون : ( إنا كنا ظالمين ) . .

ولكنه السؤال الجديد ، والتشهير بهم على الملأ الحاشد في ذلك اليوم المشهود :

( فلنسألن الذين أرسل إليهم ، ولنسألن المرسلين . فلنقصن عليهم بعلم - وما كنا غائبين )

فهو السؤال الدقيق الوافي ، يشمل المرسل إليهم ويشمل المرسلين . . وتعرض فيه القصة كلها على الملأ الحاشد ؛ وتفصل فيه الخفايا والدقائق ! . . يسأل الذين جاءهم الرسل فيعترفون . ويسأل الرسل فيجيبون .

/خ25

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (6)

وقوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } الآية ، كقوله [ تعالى ]{[11552]} { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 65 ] وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 109 ] فالرَّبُّ تبارك وتعالى يوم القيامة يسأل الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ{[11553]} رسالاته ؛ ولهذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } قال : يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين ، ويسأل المرسلين عما بلغوا .

وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، حدثنا أبو سعيد الكنْدي ، حدثنا المحاربي ، عن لَيْث ، عن نافع ، عن ابن عمر [ رضي الله عنهما ]{[11554]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلكم رَاعٍ وكلكم مسئول عن رَعِيَّتِهِ ، فالإمام يُسْأل عن الرجل{[11555]} والرجل يسأل عن أهله{[11556]} والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده " . قال الليث : وحدثني ابن طاوس ، مثله ، ثم قرأ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ }{[11557]} .

وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين بدون هذه الزيادة{[11558]}


[11552]:زيادة من ك، م، أ.
[11553]:في ك، م: "بلاغ".
[11554]:زيادة من أ.
[11555]:في ك: "عن رعيته".
[11556]:في أ: "أهل بيته".
[11557]:وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد المحاربي، قال ابن معين: يروى المناكير عن المجهولين، ولكن روي من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر وفي الصحيحين.
[11558]:صحيح البخاري برقم (5188) وصحيح مسلم برقم (1829).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (6)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنّ الْمُرْسَلِينَ } .

يقول تعالى ذكره : لنسألنّ الأمم الذين أرسلت إليهم رسلي ماذا عملت فيما جاءتهم به الرسل من عندي من أمري ونهيي ، هل عملوا بما أمرتهم به وانتهوا عما نهيتهم عنه وأطاعوا أمري ، أم عصوني ، فخالفوا ذلك ؟ وَلَنَسْأَلَنّ المُرْسَلِينَ يقول : ولنسألنّ الرسل الذين أرسلتهم إلى الأمم ، هل بلغتهم رسالاتي وأدّت إليهم ما أمرتهم بأدائه إليه ، أم قصّروا في ذلك ففرّطوا ولم يبلغوهم ؟ .

وكذلك كان أهل التأويل يتأوّلونه . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسأَلَنّ المُرْسَلِينَ قال : يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين ، ويسأل المرسلين عما بلغوا .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فَلَنْسأَلَنَ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ . . . إلى قوله : غائِبِينَ قال : يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون .

حدثني محمد بن الحسين ، قلا : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ ارْسِلَ إلَيْهِمْ وَلَنَسْألَنّ المُرْسَلِينَ يقول فلنسألن الأمم ما عملوا فيما جاءت به الرسل ، ولنسألنّ الرسل هل بّلغوا ما أرسلوا به .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : قال مجاهد : فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ الأمم ، ولنسألنّ الذين أرسلنا إليهم عما ائتمناهم عليه ، هل بّلغوا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرۡسِلَ إِلَيۡهِمۡ وَلَنَسۡـَٔلَنَّ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (6)

وقوله تعالى : { فلنسئلن الذين أرسل إليهم } الآية وعيد من الله عز وجل لجميع العالم ، أخبر أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم ويسأل النبيين عما بلغوا .

قال القاضي أبو محمد : وقد ُنفي السؤال في آيات وذلك هو سؤال الاستفهام الحقيقي . وقد ُأثبت في آيات كهذه الآية وهذا هو سؤال التقرير ، فإن الله قد أحاط علماً بكل ذلك قبل السؤال فأما الأنبياء والمؤمنون فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة ، وأما الكفار ومن نفذ عليه الوعيد من العصاة فيعقبهم جوابهم عذاباً وتوبيخاً ، فمن أنكر منهم قص عليه بعلم ، وقرأ ابن مسعود ابن عباس «فلنسألن الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا ولنسألن المرسلين » .