وقوله : { جمالت } جمع جمَلَ - كحجارة وحجر .
وقال الآلوسى : " جمالة " بكسر الجيم - كما قرأ به حمزة والكسائى وحفص وهو جمع جمل .
والتاء لتأنيث الجمع . يقال : جمل وجمال وجِمالة . . والتنوين للتكثير .
وقرأ الجمهور { جِمالاتٌ } - بكسرالجيم مع الألف والتاء - جمع جِمَال . . فيكون جمع الجمع . .
والمعنى : إنها - أى : جهنم - ترمى المكذبين بالحق ، الذين هم وقودها ، ترميهم بشرر متطاير منها لشدة اشتعالها ، كل واحدة من هذا الشرر كأنها البناء المرتفع فى عظمها وارتفاعها .
وقوله - تعالى - : { كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ } وصف آخر للشرر ، أى : كأن هذا الشرر فى هيئته ولونه وسرعة حركته . . جمال لونها أصفر .
واختبر اللون الأصفر للجمال ، لأن شرر النار عندما يشتد اشتعالها يكون مائلا إلى الصفرة .
وقيل المراد بالصفر هنا : السواد ، لأن سواد الإِبل يضرب إلى الصفرة .
فأنت ترى أن الله - تعالى - قد شبه الشرر الذى ينفصل عن النار فى عظمته وضخامته بالقصر ، وهو البناء العالى المرتفع ، وشبهه - أيضا - حين يأخذ فى الارتفاع والتفرق . . بالجمال الصفر ، فى هيئتها ولونها وسرعة حركتها ، وتزاحمها .
والمقصود بهذا التشبيه : زيادة الترويع والتهويل ، فإن هؤالءا لكافرين لما كذبوا بالحساب والجزاء ، وصف الله - تعالى - لهم نار الآخرة بتلك الصفات المرعبة ، لعلهم يقلعون عن شركهم ، لا سيما وأنهم يرون النار فى دنياهم ، ويرون شررها حين يتطاير . . وإن كان الفرق شاسعا بين نار الدنيا ونار الآخرة .
انطلقوا . وإنكم لتعرفون إلى أين ! وتعرفونها هذه التي تنطلقون إليها . فلا حاجة إلى ذكر اسمها . . ( إنهاترمي بشرر كالقصر . كأنه جمالة صفر ) . . فالشرر يتتابع في حجم البيت من الحجر . [ وقد كان العرب يطلقون كلمة القصر على كل بيت من حجر وليس من الضروري أن يكون في ضخامة ما نعهد الآن من قصور ] فإذا تتابع بدا كأنه جمال صفر ترتع هنا وهناك ! هذا هو الشرر فكيف بالنار التي ينطلق منها الشرر ? !
{ كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } أي : كالإبل السود . قاله مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك . واختاره ابن جرير .
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير : { جِمَالَةٌ صُفْرٌ } يعني : حبال السفن . وعنه -أعني ابن عباس - : { جِمَالَةٌ صُفْرٌ } قطع نحاس{[29632]} .
وقال البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، أخبرنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن عابس قال : سمعت ابن عباس : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ } قال : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع وفوق ذلك ، فنرفعه للشتاء ، فنسميه القَصَرَ ، { كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } حبال السفن ، تجمع حتى تكون كأوساط الرجال{[29633]} ،
وقوله : جِمالاتٌ صُفْرٌ اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : كأن الشرر الذي ترمي به جهنم كالقصر جِمالات سود : أي أينق سود وقالوا : الصفر في هذا الموضع ، بمعنى السود . قالوا : وإنما قيل لها صفر وهِي سود ، لأن ألوان الإبل سود تضرب إلى الصفرة ، ولذلك قيل لها صُفْر ، كما سميت الظباء أدما ، لما يعلوها في بياضها من الظلمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عمرو البصري ، قال : حدثنا بدل بن المحبّر ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، عن داود بن أبي هند ، عن الحسن كأنّهُ جِمالَةٌ صُفْرٌ قال : الأينق السود .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ كالنّوق السود الذي رأيتم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : نوق سود .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران وحدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، جميعا عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : هي الإبل .
قال : ثنا مهران ، عن سعيد ، عن قتادة كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : كالنوق السود الذي رأيتم .
وقال آخرون : بل عُني بذلك : قُلُوس السفن ، شبّه بها الشرر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس كأنّهُ جِمالات صُفْرٌ فالجِمالات الصفر : قلوس السفن التي تجمع فتوثق بها السفن .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سعيد ، عن عبد الرحمن بن عابس ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : قُلُوس سفن البحر يجمل بعضها على بعض ، حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عبد الرحمن بن عابس ، قال : سمعت ابن عباس سُئل عن جِمالاتٌ صُفْرٌ فقال : حبال السفن يجمع بعضها إلى بعض حتى تكون كأوساط الرجال .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت عبد الرحمن بن عابس ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الله ، قال : حدثنا هلال بن خباب ، عن سعيد بن جُبير ، في قوله : جِمالاتٌ صَفْرٌ قال : قُلوس الجِسر .
حدثني محمد بن حويرة بن محمد المنقري ، قال : حدثنا عبد الملك بن عبد الله القطان ، قال : حدثنا هلال بن خَبّاب ، عن سعيد بن جُبير ، مثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير كأنّهُ جِمالات صُفْرٌ قال : الحبال .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سليمان بن عبد الله ، عن ابن عباس كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : قلوس سفن البحر .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ قال : حبال الجسور .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كأنه قطع النّحاس . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : كأنّهُ جِمالاتٌ صُفْرٌ يقول : قطع النحاس .
وأولى الأقوال عندي بالصواب قول من قال : عُنِي بالجمالات الصفر : الإبل السود ، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب ، وأن الجِمالات جمع جِمال ، نظير رِجال ورِجالات ، وبُيوت وبُيوتات .
وقد اختلف القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «جِمالاتٍ » بكسر الجيم والتاء على أنها جمع جِمال وقد يجوز أن يكون أريد بها جمع جِمالة ، والجمالة جمع جَمَل كما الحجارة جمع حَجَر ، والذّكارة جمع ذَكَر . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : كأنه جِمالَةٌ بكسر الجيم على أنها جمع جمل جُمع على جمالة ، كما ذكرت مِن جمع حجَر حِجارة . ورُوي عن ابن عباس أنه كان يقرأ : «جُمالاتٌ » بالتاء وضمّ الجيم كأنه جمع جُمالة من الشيء المجمل .
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، عن هارون ، عن الحسين المعلم ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس .
والصواب من القول في ذلك ، أن لقارىء ذلك اختيارَ أيّ القراءتين شاء من كسر الجيم وقراءتها بالتاء وكسر الجيم ، وقراءتها بالهاء التي تصير في الوصل تاء ، لأنهما القراءتان المعروفتان في قرّاء الأمصار فأما ضم الجيم فلا أستجيزه لإجماع الحجة من القرّاء على خلافه .
واختلف الناس في «الجمالات » ، فقال جمهور من المفسرين : هو جمع جمال على تصحيح البناء كرجال ورجالات ، وقال آخرون أراد ب «الصفر » السود ، وأنشد على ذلك بيت الأعشى : [ الخفيف ]
تلك خيلي منه ، وتلك ركابي*** هن صفر أولادها كالزبيب{[11554]}
وقال جمهور الناس : بل «الصفر » الفاقعة لأنها أشبه بلون الشرر بالجمالات ، وقرأ الحسن «صُفُر » بضم الصاد والفاء ، وقال ابن عباس وابن جبير : «الجمالات » قلوس السفن{[11555]} وهي حبالها العظام إذا جمعت مستديرة بعضها إلى بعض جاء منها أجرام عظام ، وقال ابن عباس : «الجمالات » قطع النحاس الكبار وكان اشتقاق هذه من اسم الجملة ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «جِمالة » بكسر الجيم لحقت التاء جمالاً لتأنيث الجمع فهي كحجر وحجارة ، وقرأ ابن عباس وأبو عبد الرحمن والأعمش : «جُمالة » بضم الجمي ، وقرأ باقي السبعة والجمهور وعمر بن الخطاب «جمالات » على ما تفسر بكسر الجيم ، وقرأ ابن عباس أيضاً وقتادة وابن جبير والحسن وأبو رجاء بخلاف عنهم «جُمالات » بضم الجيم ، واختلف عن نافع وأبي جعفر وشيبة وكان ضم الجيم فيهما من الجملة لا من الجمل وكسرها من الجمل لا من الجملة .