ثم عادت السورة الكريمة إلى تأكيد أن هذا القرآن من عند الله - تعالى - وردت شبهات المشركين بأسلوب منطقي رصين ، قال - تعالى - : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين .
أى : إن هذا القرآن الكريم ، ما تنزلت به الشياطين - كما يزعم مشركو قريش ، حيث قالوا : إن لمحمد صلى الله عليه وسلم تابعا من الجن يخبره بهذا القرآن ويلقيه عليه - وإنما هذا القرآن نزل به الروح الأمين ، على قلبه صلى الله عليه وسلم .
ثم يبدأ معهم جولة جديدة عن القرآن الكريم :
( وما تنزلت به الشياطين . وما ينبغي لهم وما يستطيعون . إنهم عن السمع لمعزولون ) . .
لقد قرر في الجولة الماضية أنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين ؛ واستطرد مع تكذيبهم به ، واستعجالهم ما يتوعدهم من عذاب فيه . . وها هو ذا ينفي دعواهم أنه من وحي الشياطين على طريقة الكهان ، الذين كانوا يزعمون أن الشياطين تأتيهم بخبر الغيب ، وبالسمع الذي يتكهنون فيه بالأخبار .
وما يليق هذا القرآن بالشياطين . وهو يدعو إلى الهدى والصلاح والإيمان . والشياطين تدعو إلى الضلال والفساد والكفر .
وقوله : وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ يقول تعالى ذكره : وما تنزّلت بهذا القرآن الشياطين على محمد ، ولكنه ينزل به الروح الأمين وَما يَنْبَغي لَهُمْ يقول : وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه ، ولا يصلح لهم ذلك وَما يَسْتَطيعُونَ يقول : وما يستطيعون أن ينزّلوا به ، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء إنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُولُونَ يقول : إن الشياطين عن سمع القرآن من المكان الذي هو به من السماء لمعزولون ، فكيف يستطيعون أن يتنزّلوا به . وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ قال : هذا القرآن . وفي قوله إنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُلُونَ قال : عن سمع السماء .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو سفيان ، عن معمر ، عن قَتادة ، بنحوه ، إلا أنه قال : عن سمع القرآن .
والقرّاء مجمعة على قراءة وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ بالتاء ورفع النون ، لأنها نون أصلية ، واحدهم شيطان ، كما واحد البساتين بستان . وذُكر عن الحسن أنه كان يقرأ ذلك : «وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطُونَ » بالواو ، وذلك لحن ، وينبغي أن يكون ذلك إن كان صحيحا عنه ، أن يكون توهم أن ذلك نظير المسلمين والمؤمنين ، وذلك بعيد من هذا .
لما كان بعض ما قال الكفار إن هذا القرآن كهانة نزلت هذه الآية مكذبة لذلك أي { ما تنزلت به الشياطين } لأنها قد عزلت عن السمع الذي كانت تأخذ له مقاعدها .
وقرأ الجمهور «الشياطين » ، وروي عن الحسن أنه قرأ «الشياطون » وهي قراءة مردودة ، قال أبو حاتم هي غلط منه أو عليه وحكاها الثعلبي أيضاً عن ابن السميفع ، وذكر عن يونس بن حبيب أنه قال سمعت أعرابياً يقول دخلت بساتين من ورائها بساتون قال يونس فقلت ما أشبه هذه بقراءة الحسن ،
عطف على جملة : { وإنه لتنزيل ربّ العالمين } [ الشعراء : 192 ] وما بينهما اعتراض استدعاه تناسب المعاني وأخذُ بعضها بحُجز بعض تفنناً في الغرض . وهذا رد على قولهم في النبي صلى الله عليه وسلم هو كاهن قال تعالى : { فذكّر فما أنت بنعمت ربّك بكاهن ولا مجنون } [ الطور : 29 ] ، وزعمهم أن الذي يأتيه شيطان ؛ فقد قالت العوراء بنت حرب امرأةُ أبي لهب لما تخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيام الليل ليلتين لِمرض : أرجو أن يكون شيطانك قد تركك . ولذلك كان من جملة ما راجعهم به الوليد بن المغيرة حين شاوره المشركون فيما يصفون النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا : نقول : كلامه كلام كاهن ، فقال : والله ما هو بزمزمته . وكلام الكهان في مزاعمهم من إلقاء الجن إليهم وإنما هي خواطر نفوسهم ينسبونها إلى شياطينهم المزعومة . نُفي عن القرآن أن يكون من ذلك القبيل ، أي الكهان لا يجيش في نفوسهم كلام مثل القرآن فما كان لشياطين الكهان أن يفيضوا على نفوس أوليائهم مثلَ هذا القرآن . فالكهانة من كذب الكهان وتمويههم ، وأخبار الكهان كلها أقاصيص وسَّعها الناقلون .
فالتعريف في { السمع } للعهد وهو ما يعتقده العرب من أن الشياطين تسترق السمع ، أي تتحيّل على الاتصال بعلم ما يجري في الملإ الأعلى . ذلك أن الكهان كانوا يزعمون أن الجن تأتيهم بأخبار ما يقدّر في الملأ الأعلى مما سيظهر حدوثه في العالم الأرضي ، فلذلك نُفي هنا تنزُّلُ الشياطين بكلام القرآن بناء على أن المشركين يزعمون أن الشياطين تنزل من السماء بأخبار ما سيكون . وبيان ذلك تقدم في سورة الحجر ويأتي في سورة الصافات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قالت قريش: إنه يجيء بالقرآن الري، يعنون الشيطان، فيلقيه على لسان محمد (صلى الله عليه وسلم)، فكذبوه بما جاء به. فأنزل الله عز وجل: {وما تنزلت به الشياطين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَما تَنزّلَتْ بِهِ الشّياطِينُ" يقول تعالى ذكره: وما تنزّلت بهذا القرآن الشياطين على محمد، ولكنه ينزل به الروح الأمين. "وَما يَنْبَغي لَهُمْ "يقول: وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه، ولا يصلح لهم ذلك. "وَما يَسْتَطيعُونَ" يقول: وما يستطيعون أن ينزّلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء. "إنّهُمْ عَنِ السّمْعِ لَمَعْزُولُونَ" يقول: إن الشياطين عن سمع القرآن من المكان الذي هو به من السماء لمعزولون، فكيف يستطيعون أن يتنزّلوا به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {وما تنزلت ب الشياطين} {وما ينبغي لهم وما يستطيعون} قال بعضهم: ما تنزلت بالقرآن الشياطين. فذلك جوابا لقول أهل مكة: إن محمدا كاهن، معه رئي، هو يأتيه بما يقول، يعنون بالرئي الشيطان. وكانت الشياطين من قبل يقعدون من السماء مقاعد، يستمعون فيها الوحي من الملائكة، فينزلون به على الكهان، فهم 5 بين مصيب ومخطئ، فقالوا: محمد كذلك، فأكذبهم الله تعالى في مقالتهم تلك، فقال: {وما تنزلت به} أي بالقرآن {الشياطين} {وما ينبغي لهم} أن ينزلوا بالقرآن، وما كانوا يستطيعون، أي قد حيل بينهم وبين السمع بالملائكة والشهب.
اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بكون القرآن تنزيل رب العالمين، وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى، ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت، مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة، فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة؟ فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد: أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله، {وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}. ثم ذكر أنه يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ما ينبغي لهم، أي: ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم؛ لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر سبحانه أن غاية إنزال هذا القرآن كونه صلى الله عليه وسلم من المنذرين، وأتبع ذلك ما لاءمه حتى ختم بإهلاك من كذب المنذرين، عطف على قوله: {نزل به الروح} قوله إعلاماً بأن العناية شديدة في هذا السياق بالقرآن لتقرير أنه من عند الله ونفى اللبس عنه بقوله: {وما تنزلت به} أي القرآن {الشياطين} أي ليكون سحراً أو كهانة أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يبدأ معهم جولة جديدة عن القرآن الكريم:
(وما تنزلت به الشياطين. وما ينبغي لهم وما يستطيعون. إنهم عن السمع لمعزولون)..
لقد قرر في الجولة الماضية أنه تنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين؛ واستطرد مع تكذيبهم به، واستعجالهم ما يتوعدهم من عذاب فيه.. وها هو ذا ينفي دعواهم أنه من وحي الشياطين على طريقة الكهان، الذين كانوا يزعمون أن الشياطين تأتيهم بخبر الغيب، وبالسمع الذي يتكهنون فيه بالأخبار.
وما يليق هذا القرآن بالشياطين. وهو يدعو إلى الهدى والصلاح والإيمان. والشياطين تدعو إلى الضلال والفساد والكفر.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالتعريف في {السمع} للعهد وهو ما يعتقده العرب من أن الشياطين تسترق السمع، أي تتحيّل على الاتصال بعلم ما يجري في الملإ الأعلى. ذلك أن الكهان كانوا يزعمون أن الجن تأتيهم بأخبار ما يقدّر في الملأ الأعلى مما سيظهر حدوثه في العالم الأرضي، فلذلك نُفي هنا تنزُّلُ الشياطين بكلام القرآن بناء على أن المشركين يزعمون أن الشياطين تنزل من السماء بأخبار ما سيكون.
ثم يقول الحق سبحانه عن القرآن:
{وما تنزلت بها الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون}
لأنهم قالوا: إنما تنزلت الشياطين على محمد بالقرآن، وكانوا يقولون ذلك لكل شاعر ماهر بشعره عندهم، فلكل شاعر شيطان يمليه الشعر، وعندهم واد يسمى وادي "عبقر "هو وادي الجن، فيقولون: فلان عبقري أي: موصول بالجن في هذا الوادي.
لكن، كيف والكتاب الذي نزل على محمد عدو للشياطين، يلعنهم في كل مناسبة، ويحذر أتباعه منهم: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء... 268} (البقرة) ويقول الحق سبحانه: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير 6} (فاطر)
فكيف- إذن- يمده الشيطان ويمليه عليه، وهو عدوه؟ ولماذا لم يأتكم وأنتم أحباؤه؟ هذه واحدة.