اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا تَنَزَّلَتۡ بِهِ ٱلشَّيَٰطِينُ} (210)

قوله : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } . العامة على الياء ورفع النون ، وهو جمع تكسير .

وقرأ الحسن البصري وابن السميفع والأعمش بالواو مكان الياء والنون مفتوحة{[38032]} ، إجراء له مجرى جمع السلامة وهذه القراءة ( قَدْ ردَّها ){[38033]} جمع كثير من النحويين .

قال الفراء : غلط الشَّيخ ، ظنَّ أنَّها النون التي على هجائين{[38034]} . فقال النضر بن شميل : إن جاز أن يحتجَّ بقول العجاج ورؤبة فهلا{[38035]} جاز أن يحتجَّ بقول الحسن وصاحبه - يعني : محمد بن السميفع - مع أنا نعلم أنهما لم يقرآ به إلاَّ وقد سمعا فيه{[38036]} . وقال النحاس : هو غلط عند جميع النحويين{[38037]} .

وقال المهدوي : هو غير جائز في العربية{[38038]} . وقال أبو حاتم : هي غلطٌ منه أو عليه{[38039]} . وقد أثبت هذه القراءة جماعة من أهل العلم ودفعوا عنها الغلط ، فإنَّ القارىء بها من العلم بمكان مكينٍ . وأجابوا عنها بأجوبة صالحة .

فقال النضر بن شميل : قال يونس بن حبيب : سمعت أعرابياً يقول : دخلت بساتين من ورائها بَسَاتُون . فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن{[38040]} .

وخرَّجها بعضهم على أنها جمع ( شَيَّاطٍ ) بالتشديد ، مثال مبالغة . مثل : ( ضَرَّاب وقَتَّال ) على أن يكن مشتقاً من : شَاطَ يَشِيطُ ، أي : أُحرق ، ثم جُمِع جمع سلامة مع تخفيف الياء ، فوزنه{[38041]} : ( فَعَالُونَ ) مخففاً من ( فَعَّالِينَ ) بتشديد العين .

ويدل على ذلك أنَّهما وغيرهما قرءوا بذلك ، أعني : بتشديد الياء{[38042]} ، وهذا منقول عن مؤرج السَّدوسيّ{[38043]} . ووجَّهها آخرون بأنَّ ( آخره لما ){[38044]} كان يشبه يبرين{[38045]} ، وفلسطين ، أجري إعرابه تارة على النون ، وتارة بالحرف ، كما قالوا : هذه يبرين وفلسطين ويبرون وفلسطون{[38046]} ، وتقدم القول في ذلك في البقرة{[38047]} . والهاء في «بِه » تعود على القرآن . وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب ، نَفَى أوَّلاً تنزيل الشياطين به ، لأنَّ النفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان الإمكان هنا منتفياً ثم نفى ثانياً ابتغاء ذلك ، أي : ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلاً له{[38048]} . ثم نفى ثالثاً{[38049]} الاستطاعة والقدرة ، ثم ذكر علة ذلك وهي انعزالهم عن السماع من الملأ الأعلى ، لأنهم يرجمون بالشهب لو ( تَسَمَّعُوا ){[38050]} {[38051]} .

فصل :

لما احتج على صدق محمد - عليه السلام{[38052]} - بكون القرآن تنزيل رب العالمين ، لوقوعه في الفصاحة القصوى ، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت ، مع أنه - عليه السلام - لم يتعلم من أحد ، وكان الكفار يقولون : هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة ، فأجاب الله تعالى بأنَّ ذلك لا يتسهل للشياطين ، لأنهم معزولون عن استماع كلام أهل السماء برجمهم بالشهب . فإن قيل : العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد - عليه السلام{[38053]} - صادقاً بفصاحة القرآن ، وإخباره عن الغيب ، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزاً إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك . ( فلزم الدور . فالجواب : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك ){[38054]} لا يستفاد إلا من قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يلعن الشياطين ، ويأمر الناس بلعنهم ، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم ، فيجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى . ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون ، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب{[38055]} .


[38032]:المختصر (108)، المحتسب 2/133، البحر المحيط 7/46.
[38033]:ما بين القوسين في الأصل: قدرها.
[38034]:معاني القرآن 2/285.
[38035]:في ب: فهل.
[38036]:انظر الكشاف 3/129، القرطبي 13/142، البحر المحيط 7/46.
[38037]:إعراب القرآن 3/194.
[38038]:انظر القرطبي 13/142، البحر المحيط 7/46.
[38039]:انظر البحر المحيط 7/46.
[38040]:انظر تفسير ابن عطية 11/1255، القرطبي 13/142، البحر المحيط 7/46.
[38041]:في ب: بوزنه. وهو تحريف.
[38042]:انظر القرطبي 13/142، البحر المحيط 7/46.
[38043]:تقدم.
[38044]:ما بين القوسين في ب: آخرها.
[38045]:في ب: ميرين.
[38046]:انظر الكشاف 3/129، البحر المحيط 7/46.
[38047]:عند قوله تعالى: {واتَّبعوا ما تتلو الشَّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنَّ الشَّياطين كفروا يعلِّمون الناس السِّحر} من الآية (102).
[38048]:له: سقط من ب.
[38049]:في الأصل: ثالثاً نفى.
[38050]:انظر البحر المحيط 7/46.
[38051]:ما بين القوسين في الأصل: قسموا.
[38052]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[38053]:عليه السلام: سقط من ب.
[38054]:ما بين القوسين سقط من ب.
[38055]:انظر الفخر الرازي 24/171-172.