مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَمَا تَنَزَّلَتۡ بِهِ ٱلشَّيَٰطِينُ} (210)

قوله تعالى : { وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } .

اعلم أنه تعالى لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بكون القرآن تنزيل رب العالمين ، وإنما يعرف ذلك لوقوعه من الفصاحة في النهاية القصوى ، ولأنه مشتمل على قصص المتقدمين من غير تفاوت ، مع أنه عليه السلام لم يشتغل بالتعلم والاستفادة ، فكان الكفار يقولون لم لا يجوز أن يكون هذا من إلقاء الجن والشياطين كسائر ما ينزل على الكهنة ؟ فأجاب الله تعالى عنه بأن ذلك لا يتسهل للشياطين لأنهم مرجومون بالشهب معزولون عن استماع كلام أهل السماء ، ولقائل أن يقول العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بواسطة خبر النبي الصادق ، فإذا أثبتنا كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا بفصاحة القرآن وإخباره عن الغيب ، ولا يمكن إثبات كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزا إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك ، لزم الدور وهو باطل وجوابه : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يستفاد إلا من قول النبي ، وذلك لأنا نعلم بالضرورة أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى من الاهتمام بشأن العدو ، ونعلم بالضرورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم ، فلو كان هذا الغيب إنما حصل من إلقاء الشياطين ، لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم ، فكان يجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى ، فلما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون عن ذلك ، وأنهم معزولون عن تعرف الغيوب