التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا} (62)

ثم تنتقل السورة الكريمة إلى الحديث عن نعمة أخرى فتقول : { وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } .

والخلفة . كل شىء يجىء بعد شىء آخر غيره . ومنخ خلفة النبات . أى : الورق الذى يخرج منه بعد أن تساقط الورق السابق عليه .

أى : وهو - سبحانه - الذى جعل الليل والنهار متعاقبين . بحيث يخلف كل واحد منهما الآخر بنظام دقيق ، ليكونا مناسبين " لمن أراد أن يذكر " . أى : يتعظ ويعتبر ويتذكر أن الله - تعالى - لم يجعلهما على هذه الهيئة عبثا فيتدارك ما فاته من تقصير وتفريط فى حقوق الله - عز وجل - " أو أراد شكورا " .

أى : وجعلهما كذلك لمن أراد أن يزداد من شكر الله على نعمه التى لا تحصى ، والتى من أعظمها وجود الليل ولانهار على هذه الهيئة الحكيمة ، التى تدل على وحدانية الله - تعالى - وعظيم قدرته ، وسعة رحمته .

وبعد هذا الحديث المتنوع عن شبهات المشركين والرد عليها ، وعن مظاهر قدرة الله ونعمه على عباده ، وعن الذين إذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن . . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا} (62)

45

ويعرض كذلك مشهد الليل والنهار وتعاقبهما . وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس ، وفيهما الكفاية : ( لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) . ولولا أن جعلهما كذلك يتعاوران الناس ، ويخلف أحدهما أخاه ، ما أمكنت الحياة على ظهر هذا الكوكب لإنسان ولا لحيوان ولا لنبات . بل لو أن طولهما تغير لتعذرت كذلك الحياة .

جاء في كتاب : " الإنسان لا يقوم وحده " [ العلم يدعو إلى الإيمان ] .

" تدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة ، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة . والآن افرض أنها تدور بمعدل مائة فقط في الساعة . ولم لا ? عندئذ يكون ليلنا ونهارنا أطول مما هما الآن عشر مرات . و في هذه الحالة قد تحرق شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار . وفي الليل يتجمد كل نبت في الأرض !

. فتبارك الذي خلق السماوات والأرض ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا . وتبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا . ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا . .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا} (62)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهَارَ خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذّكّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : جَعَلَ اللّيْلَ والنّهارَ خِلْفَةً فقال بعضهم : معناه : أن الله جعل كل واحد منهما خلفا من الاَخر ، في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله ، أدرك قضاؤه في الاَخر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، عن شقيق قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فقال : فاتتني الصلاة الليلة ، فقال : أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك ، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر ، أو أراد شُكورا .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ والنّهارَ خِلْفَةً يقول : من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار ، أو من النهار أدركه بالليل .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله جَعَلَ اللّيْلَ والنّهارَ خِلْفَةً قال : جعل أحدهما خلفا للاَخر ، إن فات رجلاً من النهار شيء أدركه من الليل ، وإن فاته من الليل أدركه من النهار .

وقال آخرون : بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا صاحبه ، فجعل هذا أسود وهذا أبيض . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله اللّيْلَ والنّهارَ خِلْفَةً قال : أسود وأبيض .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، قال : حدثنا سفيان ، عن عمر بن قيس بن أبي مسلم الماصر ، عن مجاهد وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ والنّهارَ خِلْفَةً قال : أسود وأبيض .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن كل واحد منهما يخلف صاحبه ، إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا قيس ، عن عمر بن قيس الماصر ، عن مجاهد ، قوله جَعَلَ اللّيْلَ والنّهارَ خِلْفَةً هذا يخلف هذا ، وهذا يخلف هذا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَهُوَ الّذِي جَعَلَ اللّيْلَ وَالنّهارَ خِلْفَةً قال : لو لم يجعلهما خلفة لم يدر كيف يعمل ، لو كان الدهر ليلاً كله كيف يدري أحد كيف يصوم ، أو كان الدهر نهارا كله كيف يدري أحد كيف يصلي . قال : والخلفة : مختلفان ، يذهب هذا ويأتي هذا ، جعلهما الله خلفة للعباد ، وقرأ لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ أوْ أرَادَ شُكُورا والخلفة : مصدر ، فلذلك وحدت ، وهي خبر عن الليل والنهار والعرب تقول : خلف هذا من كذا خلفة ، وذلك إذا جاء شيء مكان شيء ذهب قبله ، كما قال الشاعر :

وَلهَا بالمَاطِرُونَ إذَا *** أكَلَ النّمْلُ الّذِي جَمَعَا

خِلْفَةٌ حتى إذَا ارْتَبَعَتْ *** سَكَنَتْ مِنْ جِلّقٍ بِيَعَا

وكما قال زهيَر :

بِهَا العَيْنُ والاَرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً *** وأطْلاؤُها يَنْهَضْنَ مِنْ كُلّ مَجْثَمِ

يعني بقوله : يمشين خلفة : تذهب منها طائفة ، وتخلف مكانها طائفة أخرى . وقد يحتمل أن زُهَيرا أراد بقوله : خلفة : مختلفات الألوان ، وأنها ضروب في ألوانها وهيئاتها . ويحتمل أن يكون أراد أنها تذهب في مشيها كذا ، وتجيء كذا .

وقوله لمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ يقول تعالى ذكره : جعل الليل والنهار ، وخلوف كل واحد منهما الاَخر حجة وآية لمن أراد أن يذكّر أمر الله ، فينيب إلى الحق أوْ أرَادَ شُكُورا أو أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله أو أرَادَ شُكُورا قال : شكر نعمة ربه عليه فيهما .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله لِمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ ذاك آية له أوْ أرَادَ شُكُورا قال : شكر نعمة ربه عليه فيهما .

واختلف القرّاء في قراءة قوله : يَذّكّرَ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : يَذّكّرَ مشددة ، بمعنى يتذكر . وقرأه عامة قرّاء الكوفيين : «يَذْكُرَ » مخففة وقد يكون التشديد والتخفيف في مثل هذا بمعنى واحد . يقال : ذكرت حاجة فلان وتذكرتها .

والقول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب فيهما .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا} (62)

وقوله { خلفة } أي هذا يخلف هذا ، وهذا يخلف هذا ، ومن هذا المعنى قول زهير : [ الطويل ]

بها العين والأرآم يمشين خلفة . . . وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم{[8869]}

ومن هذا قول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً [ يزيد بن معاوية ] : [ المديد ]

ولها بالماطرون إذا . . . أكل النمل الذي جمعا

خلفة حتى إذا ارتبعت . . . سكنت من جلق بيعا

في بيوت وسط دسكرة . . . حولها الزيتون قد ينعا{[8870]}

وقال مجاهد { خلفة } من الخلاف ، هذا أبيض وهذا أسود ، وما قدمناه أقوى ، وقال مجاهد وغيره من النظار { لمن أراد أن يذكر } أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله على نعمه عليه في العقل والفهم والفكر ، وقال عمرو بن الخطاب والحسن وابن عباس معناه { لمن أراد أن يذكر } ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه ، وقرأ حمزة وحده{[8871]} «يذْكُر » بسكون الذال وضم الكاف ، وهي قراءة ابن وثاب وطلحة والنخعي ، وقرأ الباقون «يذّكر » بشد الذال ، وفي مصحف أبي بن كعب «يتذكر » بزيادة تاء ، ثم قال تعالى { لمن أرد أن يذكر أو أراد شكوراً } جاء بصفة عباده الذين هم أهل التذكر والشكور .


[8869]:العين: البقر، واحدها أعين وعيناء، سميت عيناء لسعة عينها، والآرام: الظباء البيض الخوالص البياض، والواحد ريم، وخلفة معناه: إذا مضى فوج جاء فوج آخر خلفه في مكانه، وحكى يعقوب عن بعض اللغوين أن المعنى: مختلفة، يريد أنها تتردد في كل وجه، وهذا علامة الأمن والخصب، والطلا: ولد البقرة والظبي والشاة، والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه الحيوان، ويروى المجثم بفتح الثاء على أنه اسم من جثم يجثم، ويروى بكسر الثاء فهو الاسم من جثم يجثم.
[8870]:الأبيات ليزيد بن معاوية، وهي من مقطوعة قالها يتغزل في امرأة نصرانية، كانت قد ترهبت في دير عند بستان بظاهر دمشق يسمى الماطرون، وخلفة بااللام: ما يطلع من الثمر بعد الثمر، وهي رواية البغدادي في الخزانة، والعيني عن ابن القوطية، والطبري والقرطبي في تفسيريهما، ورواها المبرد في الكامل: (خرفة) بالخاء المضمومة والراء، وهو ما يخترف ويجتنى. وارتبعت: دخلت في الربيع، ويروى ذكرت بدلا من سكنت، وجلق: مدينة بالشام، يقال إنها دمشق، والبيع: جمع بيعة بكسر الباء، وهي مكان التعبد عند اليهود، ولكن هذا لا يتفق مع ما قاله البغدادي من أن المرأة كانت نصرانية، والدسكرة: القرية العظيمة، وجمعها دساكر، وينع الثمر: أدرك وطاب وحان قطافه.
[8871]:يعني من السبعة المعروفين في القراءات.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا} (62)

الاستدلال هذا بما في الليل والنّهار من اختلاف الحال بين ظلمة ونور ، وبرد وحر ، مما يكون بعضه أليق ببعض الناس من بعض ببعض آخر ، وهذا مخالف للاستدلال الذي في قوله { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً } [ الفرقان : 47 ] ، فهذه دلالة أخرى ونعمة أخرى والحِكَم في المخلوقات كثيرة .

والقصر هنا قصر حقيقي وليس إضافياً فلذلك لا يراد به الرد على المشركين بخلاف صيغ القصر السابقة من قوله { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً إلى قوله وكان ربك قديراً } [ الفرقان : 47 54 ] .

والخِلفة بكسر الخاء وسكون اللام : اسم لما يَخلف غيره في بعض ما يصلح له . صيغ هذا الاسم على زنة فِعْلة لأنه في الأصل ذو خلفة ، أي صاحب حالة خلف فيها غيره ثم شاع استعماله فصار اسماً ، قال زهير :

بها العين والآرام يَمشِينَ خِلفَةً *** وأطلاؤها ينهَضْن من كل مُجْثَم

أي يمشي سرب ويخلفه سرب آخر ثم يتعاقب هكذا . فالمعنى : جعل الليل خلفة والنهارَ خلفة : أي كلَّ واحد منهما خِلفة عن الآخر ، أي فيما يعمل فيها من التدبر في أدلة العقيدة والتعبد والتذكر .

واللام في { لمن أراد أن يذكر } لام التعليل وهي متعلقة ب { جعل } ، فأفاد ذلك أن هذا الجعل نافع من أراد أن يذّكر أو أراد شُكوراً .

والتذكر : تفعّل من الذِكر ، أي تكلف الذكر . والذكر جاء في القرآن بمعنى التأمل في أدلة الدين ، وجاء بمعنى : تذكر فائت أو منسي ، ويجمع المعنيين استظهار ما احتجب عن الفكر .

والشكور : بضم الشين مصدر مرادف الشكر ، والشكر : عرفانُ إحسان المحسن . والمراد به هنا العبادة لأنها شكر لله تعالى .

فتفيد الآية معنى : لينظرَ في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية ، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى : { وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً } [ الفرقان : 47 ] فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم ، وتفيد معنى : ليتداركَ الناسِي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيَه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله . روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوماً فقيل له : صنعت شيئاً لم تكن تصنعه ؟ فقال : إنه بَقي عليَّ من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى : { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } الآية . ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكراً له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض ، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع .

وجيء في جانب المتذكرين بقوله { أن يذكر } لدلالة المضارع على التجدد . واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله { أو أراد شكوراً } لأن الشكر يحصل دفعة . ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل { أراد } إذ لا يلتئم عطف { شكوراً } على { أن يذكر } .

وقرأ الجمهور { أن يذَّكر } بتشديد الذال مفتوحة ، وأصله : يتذكر فأدغمت التاء في الذال لتقاربهما . وقرأ حمزة وخلف { أن يَذْكُر } بسكون الذال وضم الكاف وهو بمعنى المشدّد إلاّ أن المشدّد أشدّ عملاً ، وكِلا العملين يستدركان في الليل والنهار .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلَّيۡلَ وَٱلنَّهَارَ خِلۡفَةٗ لِّمَنۡ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوۡ أَرَادَ شُكُورٗا} (62)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} فجعل النهار خلفا من الليل لمن كانت له حاجة، وكان مشغولا {لمن أراد أن يذكر} الله عز وجل {أو أراد شكورا}، في الليل والنهار، يعني: عبادته.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"جَعَلَ اللّيْلَ والنّهارَ خِلْفَةً"؛

فقال بعضهم: معناه: أن الله جعل كل واحد منهما خلفا من الآخر، في أن ما فات أحدهما من عمل يعمل فيه لله، أدرك قضاؤه في الآخر... عن شقيق قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: فاتتني الصلاة الليلة، فقال: أدرك ما فاتك من ليلتك في نهارك، فإن الله جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكّر، أو أراد شُكورا...

وقال آخرون: بل معناه أنه جعل كل واحد منهما مخالفا صاحبه، فجعل هذا أسود وهذا أبيض...

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كل واحد منهما يخلف صاحبه، إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا...

وقوله: "لمَنْ أرَادَ أنْ يَذّكّرَ "يقول تعالى ذكره: جعل الليل والنهار، وخلوف كل واحد منهما الآخر حجة وآية لمن أراد أن يذكّر أمر الله، فينيب إلى الحق، "أوْ أرَادَ شُكُورا" أو أراد شكر نعمة الله التي أنعمها عليه في اختلاف الليل والنهار.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

وفيهما دلالة الإحياء والبعث بعد الفناء والهلاك، حين يذهب بهذا، ويأتي بآخر بعد أن لم يبق من أثره شيء. فمن قدر على هذا قدر على البعث والإحياء بعد الموت وذهاب أثره...

ويذكران أيضا نعمه وآلاءه لأنه جعل النهار منقلبا لمعاشهم ومطلبا لرزقهم وما به قوام أنفسهم، وجعل الليل مستراحا لأبدانهم وسكونا؛ إذ لا قوام للأبدان لأحد دون الآخر.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"لمن أراد أن يذكر" أي خلقناه كذلك لمن أراد أن يتفكر ويستدل بها على أن لها مدبرا ومصرفا، لا يشبهها ولا تشبهه فيوجه العبادة إليه.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الخلفة من خلف، كالركبة من ركب. وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كلّ واحد منهما الآخر. والمعنى: جعلهما ذوي خلفة، أي: ذوي عقبة، أي: يعقب هذا ذاك وذاك هذا. ويقال: الليل والنهار يختلفان، كما يقال: يعتقبان... والمعنى لينظر في اختلافهما الناظر، فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال، وتغيرهما من ناقل و مغير. ويستدلّ بذلك على عظم قدرته، ويشكر الشاكر على النعمة فيهما من السكون بالليل والتصرف بالنهار، كما قال عزّ وعلا: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] أو ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين، من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. وعن الحسن رضي الله عنه: من فاته عمله من التذكر والشكر بالنهار كان له في الليل مستعتب. ومن فاته بالليل: كان له في النهار مستعتب.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{وهو الذي جعل الليل} أي الذي آيته القمر {والنهار} الذي آيته الشمس {خلفة} أي ذوي حالة معروفة في الاختلاف، فيأتي هذا خلف ذاك، بضد ما له من الأوصاف، ويقوم مقامه في كثير من المرادات، والأشياء المقدرات، ويعلم قدر التسامح فيها، ومن فاته شيء من هذا قضاه في ذاك...

وفي القاموس أن الخلف والخلفة -بالكسر: المختلف. فعلى هذا يكون التقدير: جعلهما مختلفين في النور والظلام، والحر والبرد، غير ذلك من الأحكام.

وقال الرازي في اللوامع: يقال: الأمر بينهم خلفة، أي نوبة، كل واحد يخلف صاحبه، والقوم خلفة، أي مختلفون. ولما كان الذي لا ينتفع بالشيء كالعادم لذلك الشيء، خص الجعل بالمجتني للثمرة فقال: {لمن أراد أن يذكر} أي يحصل له تذكر ولو على أدنى الوجوه- بما دل عليه الإدغام في قراءة الجماعة بفتح الذال والكاف مشددتين، لما يدله عليه عقله من أن التغير على هذه الهيئة العظيمة لا يكون بدون مغير قادر عظيم القدرة مختار، فيؤديه تذكره إلى الإيمان إن كان كفوراً، وقراءة حمزة بالتخفيف من الذكر تشير إلى أن ما يدلان عليه من تمام القدرة وشمول العلم الدال قطعاً على الوحدانية على غاية من الظهور، لا يحتاج إلى فكر، بل تحصل بأدنى التفات {أو أراد شكوراً} أي شكراً بليغاً عظيماً لنعم الله لتحمله إرادته تلك على الشكر إن كان مؤمناً، بسبب ما أنعم به ربه من الإتيان بكل منهما بعد هجوم الآخر لاجتناء ثمراته، ولو جعل أحدهما دائماً لفاتت مصالح الآخرة، ولحصلت السآمة به، والملل منه، والتواني في الأمور المقدرة بالأوقات، والكسل وفتر العزم الذي إنما يثيره لتداركها دخول وقت آخر، وغير ذلك من الأمور التي أحكمها العلي الكبير.

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :

حافظ على العبادات في أوقاتها، واقض ما فاتك. واربط أعمالك بأوقاتها، وتدارك ما فاتك. ووجه قصدك إلى ما ترى من آيات الله متفكرا. ووجه قصدك في جميع أعمالك لله سامعا مطيعا – تكن عبدا ذاكرا شاكرا سعيدا – إن شاء الله – في الدارين. وفقنا الله إلى ذلك والمسلمين أجمعين.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... فتفيد الآية معنى: لينظرَ في اختلافهما المتفكر فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال مؤثر حكيم فيستدل بذلك على توحيد الخالق ويعلم أنه عظيم القدرة فيوقن بأنه لا يستحق غيره الإلهية، وليشكر الشاكر على ما في اختلاف الليل والنهار من نعم عظيمة منها ما ذكر في قوله تعالى: {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً وجعل النهار نشوراً} [الفرقان: 47] فيكثر الشاكرون على اختلاف أحوالهم ومناسباتهم، وتفيد معنى: ليتداركَ الناسِي ما فاته في الليل بسبب غلبة النوم أو التعب فيقضيَه في النهار أو ما شغله عنه شواغل العمل في النهار فيقضيه بالليل عند التفرغ فلا يرزؤه ذلك ثواب أعماله. روي أن عمر بن الخطاب أطال صلاة الضحى يوماً فقيل له: صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: إنه بَقي عليَّ من وردي شيء فأحببت أن أقضيه وتلا قوله تعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} الآية. ولمن أراد أن يتقرب إلى الله شكراً له بصلاة أو صيام فيكون الليل أسعد ببعض ذلك والنهار أسعد ببعض، فهذا مفاد عظيم في إيجاز بديع.

وجيء في جانب المتذكرين بقوله {أن يذكر} لدلالة المضارع على التجدد. واقتصر في جانب الشاكرين على المصدر بقوله {أو أراد شكوراً} لأن الشكر يحصل دفعة. ولأجل الاختلاف بين النظمين أعيد فعل {أراد} إذ لا يلتئم عطف {شكوراً} على {أن يذكر}.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

... وقوله تعالى: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}

وفي هذا التعبير الحكيم إشارة إلى تبعة الإنسان في إهماله أو اعتباره، لأنه سبحانه قال {لمن أراد} فإرادته هي الموجهة له بعلم الله العلي الكبير، وبهذه الإرادة يستحق الثواب ويستحق العقاب، والله تعالى يهدي من أراد الهداية بالتذكر وشكر النعمة، و أو هنا للدلالة على التردد بين أمرين. أولهما التذكر وهي تذكرة دائما، أو الخطوة الأخرى التي تكون بعد التذكر...

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وقوله تعالى هنا: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة} إشارة إلى ما في تعاقب الليل والنهار، وكون كل منهما يخلف الآخر، من حكمة ربانية، وعناية إلهية، مردهما إلى إعانة الإنسان على ممارسة الحياة ممارسة معتدلة منتظمة لا شطط فيها ولا إرهاق، فللكد والسعي، والعلاقات المتداخلة بين الناس، وقتها وهو النهار، وللراحة والاستجمام، والعلاقات الخاصة التي لا تداخل فيها مع الآخرين، وقتها وهو الليل، ولا شك أن هذا التوزيع الإلهي لحياة الإنسان بين الليل والنهار، مع ما يتميز به كل منهما من خصائص وأسرار، نعمة كبرى تستحق الشكر والتدبر والاعتبار، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى في آية أخرى: {لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا} وقوله تعالى في آية أخرى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون} [القصص: 73].