ثم ساق - سبحانه - أنواعا من الأدلة المشاهدة ، التى لا يستطيع أحد إنكارها ، ليلفت أنظار الناس إلى مظاهر قدرته ووحدانيته . فقال - تعالى - : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ . وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ . وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ . وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ } .
والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والتحريض على التأمل والتفكر ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام ، والمراد بالنظر : التدبر فى تلك المخلوقات ، فإن من شأن هذا التدبر ، أنه يؤدى إلى الاعتبار والانتفاع . . والخطاب لأولئك الكافرين الجاهلين ، الذين أمامهم الشواهد الواضحة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، ومع ذلك لم ينتبهوا لها .
والمعنى : أيستمر هؤلاء الكافرون فى جهلهم وضلالهم ، وفى إنكارهم لأمر البعث والحساب والجزاء . . فلا ينظرون نظر اعتبار وتأمل ، إلى الإِبل - وهى أمام أعينهم - كيف خلقها الله ما - تعالى - بهذه الصورة العجيبة ، وأوجد فيها من الأعضاء المتناسقة ، ومن التكوين الخِلْقِى ، ما يجعلها تؤدى وظيفتها النافعة لبنى آدم ، على أكمل وجه ، فمن لبنها يشربون ، ومن لحمها يأكلون وعلى ظهرها يسافرون ، وأثقالهم عليها يحملون .
وخص - سبحانه - الإِبل بالذكر من بين سائر الحيوانات ، لأنها أعز الأموال عند العرب ، وأقربها إلى مألوفهم وحاجتهم ، وأبدعها خلقا وهيئة وتكوينا .
قال صاحب الكشاف : قوله - تعالى - : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل } نظر اعتبار { كَيْفَ خُلِقَتْ } خلقا عجيبا ، دالا على تقدير مقدر ، شاهدا بتدبير مدبر ، حيث خلقها للنهوض بالأثقال ، وجرها إلى البلاد الشاحطة ، أى البعيدة ، فجعلها تبرك حتى تحمل عن قرب ويسر ، ثم تنهض بما حملت ، وسخرها منقادة لكل من اقتادها بأزمتها ، لا تعارض ضعيفا ، ولا تمانع صغيرا .
فإن قلت : كيف حسن ذكر الإِبل ، مع السماء والجبال والأرض ، ولا مناسبة ؟ . .
قلت : قد انتظم هذه الأشياء ، نظر العرب فى أوديتهم وبواديهم ، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم . .
وتنتهي هذه الجولة في العالم الآخر ، فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر . الحاضر . الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر ، وتميز الصنعة ، وتفرد الطابع . الدال على أن وراء التدبير والتقدير أمرا بعد هذه الحياة ، وشأنا غير شأن الأرض . وخاتمة غير خاتمة الموت :
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت ? ) . .
وتجمع هذه الآيات الأربعة القصار ، أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة . كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله . حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال [ ممثلة لسائر الحيوان ] على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة .
إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان . . السماء والأرض والجبال والحيوان . . وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه . موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها .
والمعجزة كامنة في كل منها . وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها . وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى . ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها :
( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ? ) . . والإبل حيوان العربي الأول . عليها يسافر ويحمل . ومنها يشرب ويأكل . ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل . فهي مورده الأول للحياة . ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان . فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد ، وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف . مرعاها ميسر ، وكلفتها ضئيلة ، وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال . . ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء . .
لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل ؛ وهي بين أيديهم ، لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد . . ( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ? ) . . أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها ? ثم يتدبرون : كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا ! إنهم لم يخلقوها . وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته ، التي تدل عليه ، وتقطع بوجوده ؛ كما تشي بتدبيره وتقديره .
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَىَ الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } .
يقول تعالى ذكره لمُنكري قدرته على ما وصف في هذه السورة ، من العقاب والنكال الذي أعدّه لأهل عداوته ، والنعيم والكرامة التي أعدّها لأهل ولايته : أفلا ينظر هؤلاء المنكرون قُدرة الله على هذه الأمور ، إلى الإبل كيف خلَقها ، وسخرها لهم وذَلّلها ، وجعلها تحمل حملها باركة ، ثم تنهض به ، والذي خلق ذلك غير عزيز عليه أن يخلق ما وصف من هذه الأمور في الجنة والنار ، يقول جلّ ثناؤه : أفلا ينظرون إلى الإبل ، فيعتبرون بها ، ويعلمون أن القُدرة التي قدَر بها على خلقها ، لن يُعجزه خلق ما شابهها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : لما نعت الله ما في الجنة ، عَجّب من ذلك أهل الضلالة ، فأنزل الله : أفَلا يَنْظُرُونَ إلى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ فكانت الإبل من عيش العرب ومن خوَلهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شُعبة ، عن أبي إسحاق ، عمن سمع شريحا يقول : اخرجوا بنا ننظر إلى الإبل كيف خُلقت .
أفلا ينظرون نظر اعتبار إلى الإبل كيف خلقت خلقا دالا على كمال قدرته وحسن تدبيره حيث خلقها لجر الأثقال إلى البلاد النائية فجعلها عظيمة باركة للمحل ناهضة بالحمل منقادة لمن اقتادها طوال الأعناق لينوء بالأوقار ترعى كل نابت وتحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتى لها قطع البوادي والمفاوز مع ما لها من منافع أخرى ولذلك خصت بالذكر لبيان الآيات المنبثة في الحيوانات التي هي أشرف المركبات وأكثرها صنعا ولأنها أعجب ما عند العرب من هذا النوع وقيل المراد بها السحاب على الاستعارة .
لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به ، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن أن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله ، فُرع على ذلك إنكارٌ عليهم إعراضَهم عن النظر في دلائل الوحدانية ، فالفاء في قوله : { أفلا ينظرون } تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء ، وإلى الاهتداء إلى أن منشىء النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء ، لا يُستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإِنسان بعد فنائه عن عدم ، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام ، فكانَ إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع ، وبين المفرع عنه من جملة : { وجوه يومئذ ناعمة } [ الغاشية : 8 ] كانَ في موقع الاعتراض كما علمت .
فضمير { ينظرون } عائد إلى معلوم من سياق الكلام .
والهمزة للاستفهام الإِنكاري إنكاراً عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته .
والنظر : نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور ، وتعديته بحرف ( إلى ) تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق ، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا ، لما في ( إلى ) من معنى الانتهاء حتى كأنَّ النظر انتهى عند المجرور ب ( إلى ) انتهاءَ تمكن واستقرارٍ كما قال تعالى : { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك } [ الأحزاب : 19 ] وقوله : { إلى ربها ناظرة } [ القيامة : 23 ] .
ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإِهمال قُيّد فعل { ينظرون } بالكيفيات المعدودة في قوله : { كيف خلقت } ، { كيف رفعت } ، { كيف نصبت } ، { كيف سطحت } أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خَلقها .
وجملة : { كيف خلقت } بدل اشتمال من الإِبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل { ينظرون } لاَ حرف الجر ، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل ، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكلٌّ على ما يقتضيه معناه وموقعه ، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه .
والمعنى والتقديرُ : أفلا ينظرون إلى الإِبللِ هيئةِ خَلْقِها .
وقد عُدّت أشياءُ أربعة هي من النَّاظرين عن كَثب لا تغيب عن أنظارهم ، وعُطف بعضها على بعض ، فكان اشتراكها في مرْآهم جهةً جامعة بينها بالنسبة إليهم ، فإنهم المقصودون بهذا الإِنكار والتوبيخ ، فالذي حسَّن اقتران الإِبل مع السماء والجبال والأرض في الذكر هنا ، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع .
فالإبل أموالهم ورواحلهم ، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمّالة أثقالهم ، وقد خلقها الله خلقاً عجيباً بقوة قوائمها ويُسْر بُروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها ، وجَعَل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك ، وجعل في بطونها أمعاء تختزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يَهلك فيما دونه غيرها من الحيوان .
وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طِوالهم عن وصف الرواحل ومزاياها . وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير .
و{ الإِبل } : اسم جمع للبُعران لا واحد له من لفظه ، وقد تقدم في قوله تعالى : { ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما } في سورة الأنعام ( 146 ) .
وعن المبرد أنه فسر الإِبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوَّله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإِبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه ، أي هو على نحو قول عنترة :