ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر قدرته فقال : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت } كإخراجه الإِنسان من النطفة ، والنبات من الحب ، والمؤمن من الكفار { وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } كما فى عكس هذه الأمور ، كإخراجه النطفة من الإِنسان ، والحب من النبات ، والكافر من المؤمن .
{ وَيُحْيِي الأرض } بالنبات { بَعْدَ مَوْتِهَا } : أى : بعد قحطها وجدبها ، كما قال - سبحانه - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } وقوله - تعالى - : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } تذييل قصد به تقريب إمكانة البعث من العقول والأفهام . أى : ومثل هذا الإِخراج للنبات من الأرض ، وللحى من الميت ، نخرجكم - أيها الناس - من قبوركم يوم القيامة ، للحساب والجزاء .
( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويحيي الأرض بعد موتها . . وكذلك تخرجون ) . .
( يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها ) . . تلك العملية الدائبة التي لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان ، على سطح الأرض ، وفي أجواز الفضاء ، وفي أعماق البحار . . ففي كل لحظة يتم هذا التحول . بل هذه المعجزة الخارقة التي لا ننتبه إليها لطول الألفة والتكرار . في كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي . وفي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة ؛ وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام . ومن خلال الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات ؛ ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة ، وتستعد للإخصاب . وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين . إنسان أو حيوان أو طائر . والجثة التي ترمى في الأرض وتختلط بالتربة وتشحنها بالغازات هي مادة جديدة للحياة وغذاء جديد للنبات ، فالحيوان والإنسان ! ومثل هذا يتم في أغوار البحار وفي أجواز الفضاء على السواء .
إنها دورة دائبة عجيبة رهيبة لمن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير ، ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله .
( وكذلك تخرجون ) . . فالأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعا مما يشهده الكون في كل لحظة من لحظات الليل والنهار في كل مكان !
القول في تأويل قوله تعالى : { يُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَيُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } .
يقول تعالى ذكره : صَلّوا في هذه الأوقات التي أمركم بالصلاة فيها أيها الناس ، لله الذي يخرج الحيّ من الميت ، وهو الإنسان الحيّ من الماء الميت ، ويخرج الماء الميت من الإنسان الحيّ ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فينبتها ، ويخرج زرعها بعد خرابها وجدوبها وكذلكَ تُخْرَجُونَ يقول : كما يحيي الأرض بعد موتها ، فيخرج نباتها وزرعها ، كذلك يحييكم من بعد مماتكم ، فيخرجكم أحياء من قبوركم إلى موقف الحساب .
وقد بيّنا فيما مضى قبل تأويل قوله : يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ، ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع ، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر من الخبر هنالك إن شاء الله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ، ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ قال : يخرج من الإنسان ماء ميتا فيخلق منه بشرا ، فذلك الميت من الحيّ ، ويخرج الحيّ من الميت ، فيعني بذلك أنه يخلق من الماء بشرا ، فذلك الحيّ من الميت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، عن الحسن ، قوله يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ، ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير وأبو معاوية عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عبد الله يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ ، ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ قال : النّطْفة ماء الرجل ميتة وهو حيّ ، ويخرج الرجل منها حيا وهي ميتة .
{ الحي } و { الميت } في هذه الآية يستعمل حقيقة ويستعمل مجازاً ، فالحقيقة المني يخرج منه الإنسان والبيضة يخرج منها الطائر وهذه بعينها ميتة تخرج من حي وما جرى هذا المجرى ، وبهذا المعنى فسر ابن عباس وابن مسعود وقال الحسن : المعنى المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن .
قال الفقيه الإمام القاضي : وروي هذ المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ هذه الآية عندما كلمته بالإسلام أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ، والمجاز{[9294]} إخراج النبات الأخضر من الأرض وإخراج الطعم من النبات وما جرى هذا المجرى ، ومثل بعد إحياء الأرض بالمطر بعد موتها بالدثور والعطش ، ثم بعد هذا الأمثلة القاضية بتجويز بعث الأجساد عقلاً ساق الخبر بأن كذلك خروجنا من القبور . وقرأت فرقة فرقة «يخرجون » بالياء من تحت ، وقرأ عامة القراء «تُخرجون » بالتاء المضمومة ، وقرأ الحسن وابن وثاب والأعمش وطلحة بفتح التاء وضم الراء .
هذه الجملة بدل من جملة { الله يبدأ الخلق ثم يعيده } [ الروم : 11 ] . ويجوز أيضاً أن تكون موقع العلة لجملة { فسبحان الله حين تمسون } [ الروم : 17 ] وما عطف عليها ، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت . واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث رداً للكلام على ما تقدم من قوله { الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون } [ الروم : 11 ] .
فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين : إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله { فسبحان الله } [ الروم : 17 ] ، وإيفاء حق التعظيم والإجلال ، والمقصود هو إخراج الحي من الميت . وأما عطف { ويخرج الميت من الحي } فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين . وفي الآية الطباق . وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين .
والإخراج : فصل شيء محوي عن حاويه . يقال : أخرجه من الدار ، وأخرج يده من جيبه ، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء . والإتيان بصيغة المضارع في { يخرج ويحيي } لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله { الله الذي يرسل الرياح } [ الروم : 48 ] . فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذْ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قُوى تُخرج الزرع والنبات حياً نامياً .
وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها : إنشاء الأجنة من النطف ، وإنشاء الفراخ من البيض ؛ وإخراج الميت من الحي يظهر في العكس وقد تقدم في سورة آل عمران . وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة ، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أيمة الكفر وقد قالت للنبي صلى الله عليه وسلم « ما كان أهل خباء أحبّ إليّ أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إليّ أن يَعَزُّوا من أهل خبائك ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " وأيضاً " ( أي ستزيدين حباً لنا بسبب نور الإسلام ) . وإخراج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعيط من أبيها . ولما كلمت أم كلثوم بنت عقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن إسلامها وهجرتها إلى المدينة حين جاء أخواها يرومان ردها إلى مكة حسب شروط الهدنة فقالت : يا رسول الله أنا امرأة وحال النساء إلى الضعف فأخشى أن يفتنوني في ديني ولا صبر لي ، فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم { يخرج الحيّ من الميت } ، ونزلت آية الامتحان فلم يردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهما وكانت أول النساء المهاجرات إلى المدينة بعد صلح الحديبية .
والتشبيه في قوله { وكذلك تخرجون } راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله { ويخرج الميت من الحي } ليس مقصوداً من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة . ويجوز أن يكون التشبيه راجعاً إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها ، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتاً فيها ، كما قال تعالى { والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يُعيدكم فيها ويُخرجكم إخراجاً } [ نوح : 17 ، 18 ] . ولا وجه لاقتصار التشبيه على الثاني دون الأول .
والمعنى : أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكَّموا الإلف في موضع تحكيم العقل . وقرأ نافع وحفص وحمزة { الميّت } بتشديد الياء . وقرأه الباقون بالتخفيف . وقرأ الجمهور { تُخرجون } بضم التاء الفوقية . وقرأه حمزة والكسائي بفتحها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يخرج الحي من الميت} يقول: يخرج الناس والدواب والطير من النطف وهي ميتة، {ويخرج الميت} يعني النطف {من الحي} يعني من الناس والدواب والطير.
{ويحي الأرض} بالماء {بعد موتها} فينبت العشب فذلك حياتها.
{وكذلك} يعني وهكذا {تخرجون} يا بني آدم من الأرض...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: صَلّوا في هذه الأوقات التي أمركم بالصلاة فيها أيها الناس، لله الذي يخرج الحيّ من الميت، وهو الإنسان الحيّ من الماء الميت، ويخرج الماء الميت من الإنسان الحيّ.
"ويُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِها" فينبتها، ويخرج زرعها بعد خرابها وجدوبها.
"وكذلكَ تُخْرَجُونَ" يقول: كما يحيي الأرض بعد موتها، فيخرج نباتها وزرعها، كذلك يحييكم من بعد مماتكم، فيخرجكم أحياء من قبوركم إلى موقف الحساب...
عن ابن عباس، قوله: "يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ، ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ" قال: يخرج من الإنسان ماء ميتا فيخلق منه بشرا، فذلك الميت من الحيّ، ويخرج الحيّ من الميت، فيعني بذلك أنه يخلق من الماء بشرا، فذلك الحيّ من الميت...
عن الحسن، قوله "يُخْرِجُ الحَيّ مِنَ المَيّتِ، ويُخْرِجُ المَيّتَ مِنَ الحَيّ" المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر عن قدرته في إنشاء الأشياء مبتدئا لا من أصل، لأنه قال: {يخرج الحي من الميت} والميت ليس فيه حياة، وكذلك {الميت من الحي} وليس في الحي موت. ولكنه يخرج هذا من هذا على ابتداء الحياة فيه وابتداء الموت فيه من غير أن كان فيه ما ذكر.
ثم اختلف فيه أهل التأويل:... قال بعضهم: {يخرج الحي من الميت} أي المسلم من الكافر {ويخرج الميت من الحي} أي الكافر من المسلم. ولكن يجيء على هذا أن يقول: يخرج من المسلم ما لا يكون كافرا ومن الكافر ما لم يصر مسلما، لأن ما يخرج لا يوصف بالإسلام ولا بالكفر، ولا ينسب إلى واحد منهما وقت الخروج حتى يبلغ، فيكون منه فعل الكفر أو فعل الإسلام.
{وكذلك تخرجون} أي كذلك تبعثون، وتحيون، كما أخرج الحي من الميت والميت من الحي من غير أن كانت الحياة في الميت والموت في الحي.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وروى الزهري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار: «أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه وعندها خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث: فقال: من هذه؟ قالوا: هي خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث. قال: سبحان الله! يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي»، وكانت المرأة صالحة، وأبوها كان كافرا...
في تعلق إخراج الحي من الميت والميت من الحي، بما تقدم عليه هو أن عند الإصباح يخرج الإنسان من شبه الموت وهو النوم إلى شبه الوجود وهو اليقظة، وعند العشاء يخرج الإنسان من اليقظة إلى النوم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كذلك يفعل على سبيل التكرر وأنتم تنظرون.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
ومن باب الإشارة: {يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} [الروم: 9 1] فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تلك العملية الدائبة التي لا تكف ولا تني لحظة واحدة من لحظات الليل والنهار في كل مكان، على سطح الأرض، وفي أجواز الفضاء، وفي أعماق البحار.. ففي كل لحظة يتم هذا التحول. بل هذه المعجزة الخارقة التي لا ننتبه إليها لطول الألفة والتكرار. في كل لحظة يخرج حي من ميت ويخرج ميت من حي. وفي كل لحظة يتحرك برعم ساكن من جوف حبة أو نواة فيفلقها ويخرج إلى وجه الحياة؛ وفي كل لحظة يجف عود أو شجرة تستوفي أجلها فتتحول إلى هشيم أو حطام. ومن خلال الهشيم والحطام توجد الحبة الجديدة الساكنة المتهيئة للحياة والإنبات؛ ويوجد الغاز الذي ينطلق في الجو أو تتغذى به التربة، وتستعد للإخصاب. وفي كل لحظة تدب الحياة في جنين. إنسان أو حيوان أو طائر. والجثة التي ترمى في الأرض وتختلط بالتربة وتشحنها بالغازات هي مادة جديدة للحياة وغذاء جديد للنبات، فالحيوان والإنسان! ومثل هذا يتم في أغوار البحار وفي أجواز الفضاء على السواء. إنها دورة دائبة عجيبة رهيبة لمن يتأملها بالحس الواعي والقلب البصير، ويراها على هدى القرآن ونوره المستمد من نور الله. (وكذلك تخرجون).. فالأمر عادي واقعي لا غرابة فيه وليس بدعا مما يشهده الكون في كل لحظة من لحظات الليل والنهار في كل مكان!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة بدل من جملة {الله يبدأ الخلق ثم يعيده} [الروم: 11].
ويجوز أيضاً أن تكون موقع العلة لجملة {فسبحان الله حين تمسون} [الروم: 17] وما عطف عليها، أي هو مستحق للتسبيح والحمد لتصرفه في المخلوقات بالإيجاد العجيب وبالإحياء بعد الموت. واختير من تصرفاته العظيمة تصرف الإحياء والإماتة في الحيوان والنبات لأنه تخلص للغرض المقصود من إثبات البعث رداً للكلام على ما تقدم من قوله {الله يبدأ الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون} [الروم: 11]. فتحصل من ذلك أن الأمر بتسبيحه وحمده معلول بأمرين: إيفاء حق شكره المفاد بفاء التفريع في قوله {فسبحان الله} [الروم: 17]، وإيفاء حق التعظيم والإجلال.
والمقصود هو إخراج الحي من الميت، وأما عطف {ويخرج الميت من الحي} فللاحتراس من اقتصار قدرته على بعض التصرفات ولإظهار عجيب قدرته أنها تفعل الضدين. وفي الآية الطباق. وهذا الخطاب للمؤمنين تعريض بالرد على المشركين.
والإخراج: فصل شيء محوي عن حاويه. يقال: أخرجه من الدار، وأخرج يده من جيبه، فهو هنا مستعمل لإنشاء شيء من شيء. والإتيان بصيغة المضارع في {يخرج ويحيي} لاستحضار الحالة العجيبة مثل قوله {الله الذي يرسل الرياح} [الروم: 48]. فهذا الإخراج والإحياء آية عظيمة على استحقاقه التعظيم والإفراد بالعبادة إذْ أودع هذا النظام العجيب في الموجودات فجعل في الشيء الذي لا حياة له قوة وخصائص تجعله ينتج الأشياء الحية الثابتة المتصرفة ويجعل في تراب الأرض قُوى تُخرج الزرع والنبات حياً نامياً.
وإخراج الحي من الميت يظهر في أحوال كثيرة منها:... وفي الآية إيماء إلى أن الله يخرج من غلاة المشركين أفاضل من المؤمنين مثل إخراج خالد بن الوليد من أبيه الوليد بن المغيرة، وإخراج هند بنت عتبة بن ربيعة من أبيها أحد أيمة الكفر.
والتشبيه في قوله {وكذلك تخرجون} راجع إلى ما يصلح له من المذكور قبله وهو ما فيه إنشاء حياة شيء بعد موته بناء على ما قدمناه من أن قوله {ويخرج الميت من الحي} ليس مقصوداً من الاستدلال ولكنه احتراس وتكملة.
ويجوز أن يكون التشبيه راجعاً إلى أقرب مذكور وهو إحياء الأرض بعد موتها، أي وكإخراج النبات من الأرض بعد موته فيها يكون إخراجكم من الأرض بعد أن كنتم أمواتاً فيها، كما قال تعالى {والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يُعيدكم فيها ويُخرجكم إخراجاً} [نوح: 17، 18]. ولا وجه لاقتصار التشبيه على الثاني دون الأول. والمعنى: أن الإبداء والإعادة متساويان فليس البعث بعد الموت بأعجب من ابتداء الخلق ولكن المشركين حكَّموا الإلف في موضع تحكيم العقل...
أولا: ما مناسبة الحديث عن البعث، وإخراج الحي من الميت، وإخراج الميت من الحي بعد الحديث عن تسبيح الله وتحميده؟
قالوا: لأنه تكلم عن المساء والصباح، وفيهما شبه بالحياة والموت، ففي المساء يحل الظلام، ويسكن الخلق وينامون، فهو وقت للهدوء والاستقرار، والنوم الذي هو صورة من صور الموت؛ لذلك نسميه الموت الأصغر، وفي الصباح وقت الحركة والعمل والسعي على المعاش، ففيه إذن حياة، كما يقول سبحانه: {وجعلنا الليل لباسا10 وجعلنا النهار معاشا11} (النبأ)
(الحي الميت): في نظرنا نحن وعلى حد علمنا وفهمنا للأمور، وإلا فكل شيء من الوجود له حياة تناسبه، ولا يوجد موت حقيقي إلا في الآخرة التي قال الله فيها: {كل شيء هالك إلا وجهه} (القصص 88) فضد الحياة الهلاك بدليل قوله تعالى: {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} (الأنفال 42) وما دام كل شيء هالكا إلا وجهه تعالى، فكل شيء بالتالي حي، لكنه حي بحياة تناسبه
إذن: نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به، وإن كنا لا ندركها؛ لأننا نفهم أن الحياة في الأحياء فحسب، إنما هي في كل شيء وكونك لا تفقه حياة هذه الأشياء، فهذه مسألة أخرى.
فمعنى {يخرج الحي من الميت} أي: في عرفنا نحن، وعلى قدر فهمنا للحياة وللموت، والبعض يقول: يعني يخرج البيضة من الدجاجة، ويخرج الدجاجة من البيضة، وهذا الكلام لا يستقيم مع منطق العقل، وهل كل بيضة بالضرورة تخرج دجاجة؟ لا بل لا بد أن تكون بيضة مخصبة. إذن: لا تقل البيضة والدجاجة، ولكن قل يخرج الحي من الميت من كل شيء موجود.
{ويخرج الميت من الحي}...كما أخرج الحي من الميت أخرج الميت من الحي، فانتبه، وإياك أن تتعالى أو تتكبر، وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أن يسلبها منك في أي لحظة...
{ويحيي الأرض بعد موتها} وفي موضع آخر: {وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} (الحج 5) فالأرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء، لا أثر فيها لحياة، فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر تحركت وأنبتت من كل زوج بهيج، فهي نموذج حي مشاهد للخلق وللحياة. وفي آية أخرى: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة... 63} (الحج) فهل اخضرت الأرض ساعة نزل عليها المطر؟ لا، إنما بعد فترة، كأنه سبحانه يقول لك: لاحظ الحدث ساعة يوجد، واستحضر صورته، فبعد نزول الماء ترى الأرض تخضر تدريجيا، وإن لم تبذر فيها شيئا، ففيها بذور شتى حملتها الرياح، ثم استقرت في التربة ولو لسنوات طوال تظل صالحة للإنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها...
إذن: الحق سبحانه يمتن علينا بالشيء، ثم يذكرنا بقدرته تعالى على سلبه، وعلى نقيضه حتى لا نغتر به، ليس في مسألة الموت والحياة فحسب، إنما في الزرع وفي الماء وفي النار...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«إخراج الحيّ من الميت» فسّره بعضهم بخروج الإنسان والحيوان من النطفة، وقال بعضهم: بل المراد منه تولد المؤمن من الكافر، وقال بعضهم: المراد منه تيقظ النائمين والراقدين. والظاهر أنّه ليس أيّاً من هذه المعاني هو المعنى الأصلي، لأنّ النطفة بنفسها موجود حي، ومسألة «الكفر والإيمان» هي من بطون الآية، لا من ظواهر الآية، وأمّا موضوع التيقظ والنوم فهو أمر مجازي، إذ ليس النوم والتيقظ موتاً وحياة حقيقيين. إنّما ظاهر الآية هو أنّ الله يخرج الموجودات الحية دائماً من الموجودات الميتة، ويبدل الموجودات الهامدة التي لا روح فيها إلى موجودات حيّة. وبالرغم من أنّه من المسلّم به في العصر الحاضر على الأقل أنّه لم يُر في المختبرات والمشاهدات اليوميّة أن موجوداً حيّاً يتولد من موجود ميّت، بل تتولد الموجودات الحية دائماً من البيوض أو البذور أو نطف الموجودات الحية الأُخرى، غير أن الثابت علمياً والمسلّم به أنّه كانت الأرض في البداية قطعة ملتهبة من النّار، ولم يوجد عليها أي موجود حي... ثمّ تولدت الموجودات الحية من مواد لا روح فيها... لكن الذي نلمسه وندركه، هو أنّ الموجودات الميتة دائماً تكون جزءاً من الموجودات الحية وتكسى ثوب الحياة! فالماء والطعام اللذان نتناولهما ليسا من الموجودات الحية، لكنّهما حين يكونان في البدن ويصيران جزءاً منه يتحولان إلى موجود حيّ وتضاف كريات جديدة وخلايا جديدة إلى كريات البدن وخلاياه، كما يتبدل الطفل الرضيع عن هذا الطريق إلى شاب قوي متين. أليس هذا إخراج الحياة من قلب الموت، أو «الحي من الميت»؟! فعلى هذا يمكن القول بأن في نظام الطبيعة دائماً يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وبهذا الدليل فإنّ الله الذي خلق الطبيعة قادر على إحياء الموتى في العالم الآخر.
وبالطبع فإنّ الآية الآنفة من جهة البعد المعنوي لها تفاسير أخر.. منها تولد المؤمن من الكافر، وتولد الكافر من المؤمن، والعالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والصالح من المفسد، والمفسد من الصالح، كما أشير إلى كل ذلك في الروايات الإسلامية أيضاً... كما يمكن أن يكون للموت والحياة معنى جامع واسع يشمل الجانب المادي والجانب المعنوي.