وهنا يرد عليهم إبراهيم - عليه السلام - بتهكم ظاهر ، واستهزاء واضح فيقول : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } يعنى الذى تركه بدون تحطيم ، فإن كنتم لم تصدقوا قولى { فَاسْأَلُوهُمْ } عمن فعل بهم ذلك { إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } أى : إن كانوا ممن يتمكن من النطق أجابوكم وأخبروكم عمن فعل بهم ما فعل .
فأنت ترى أن إبراهيم - عليه السلام - لم يقصد بقوله هذا الإخبار بأن كبير الأصنام هو الذى حطمها ، أو سؤالهم للأصنام عمن حطمها ، وإنما الذى يقصده هو الاستهزاء بهم ، والسخرية بأفكارهم ، فكأنه يقول لهم : إن هذه التماثيل التى تعبدونها من دون الله . لا تدرى إن كنت أنا الذى حطمتها أم هذا الصنم الكبير ، وأنتم تعرفون أنى قد بقيت قريبا منها بعد أن وليتم عنها مدبرين ، وإذا كان الأمر كذلك فانظروا من الذى حطمها إن كانت لكم عقول تعقل ؟
قال صاحب الكشاف : هذا - أى قول إبراهيم لهم : بل فعله كبيرهم هذا - من معاريض الكلام ، ولطائف هذا النوع لا يتغلغل فيها إلا أذهان الخاصة من علماء المعانى .
والقول فيه أن قصد إبراهيم - عليه السلام - لم يكن إلى أن ينسب الفعل الصادر عنه إلى الصنم ، وإنما قصد تقريره لنفسه ، وإثباته لها على أسلوب تعريضى ، يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم .
وهذا كما لو قال لك صاحبك ، وقد كتبت كتابا بخط رشيق - وأنت شهير بحسن الخط - : أأنت كتبت هذا ؟ وصاحبك أمى لا يحسن الخط ، ولا يقدر إلى على خربشة فاسدة - أى كتابة رديئة - فقلت له : بل كتبته أنت ، كان قصدك بهذا الجواب ، تقرير أن هذه الكتابة لك . مع الاستهزاء به . . .
وهذا التفسير للآية الكريمة من أن إبراهيم - عليه السلام - قد قال لقومه ما قال من سبيل الاستهزاء بهم ، هو الذى تطمئن إليه قلوبنا ، وقد تركنا أقوالا أخرى للمفسرين فى معنى الآية ، نظرا لضعف هذه الأقوال بالنسبة لهذا القول .
فأما إبراهيم فهو يتهكم بهم ويسخر منهم ، وهو فرد وحده وهم كثير . ذلك أنه ينظر بعقله المفتوح وقلبه الواصل فلا يملك إلا أن يهزأ بهم ويسخر ، وأن يجيبهم إجابة تناسب هذا المستوى العقلي الدون :
( قال : بل فعله كبيرهم هذا . فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) . .
والتهكم واضح في هذا الجواب الساخر . فلا داعي لتسمية هذه كذبة من إبراهيم - عليه السلام - والبحث عن تعليلها بشتى العلل التي اختلف عليها المفسرون . فالأمر أيسر من هذا بكثير ! إنما أراد أن يقول لهم : إن هذه التماثيل لا تدري من حطمها إن كنت أنا أم هذا الصنم الكبير الذي لا يملك مثلها حراكا . فهي جماد لا إدراك له أصلا . وأنتم كذلك مثلها مسلوبو الإدراك لا تميزون بين الجائز والمستحيل . فلا تعرفون إن كنت أنا الذي حطمتها أم إن هذا التمثال هو الذي حطمها ! ( فاسألوهم إن كانوا ينطقون ) !
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالُوَاْ أَأَنْتَ فَعَلْتَ هََذَا بِآلِهَتِنَا يَإِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هََذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فأتوا بإبراهيم ، فلما أتوا به قالوا له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيم ؟ فأجابهم إبراهيم : بل فعله كبيرهم هذا وعظيمهم ، فاسألوا الاَلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق أو تعبر عن نفسها
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أُتِي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بآلِهَتِنا يا إبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فاسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها ، فكسرهن .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا . . . الاَية ، وهي هذه الخصلة التي كادهم بها .
وقد زعم بعض من لا يصدّق بالاَثار ولا يقبل من الأخبار إلا ما استفاض به النقل من العوامّ ، أن معنى قوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا إنما هو : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم ، أي إن كانت الاَلهة المكسورة تنطق فإن كبيرهم هو الذي كسرهم . وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كَذَبات كلها في الله ، قوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا ، وقوله : إنّي سَقِيمٌ ، وقوله لسارة : هي أختي . وغير مستحيل أن يكون الله ذكْره أذِن لخليله في ذلك ، ليقرّع قومه به ، ويحتجّ به عليهم ، ويعرّفهم موضع خطئهم ، وسوء نظرهم لأنفسهم ، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته : أيّتُها العيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ ولم يكونوا سرقوا شيئا .
{ قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } أسند الفعل إليه تجوزا لأن غيظه لما رأى من زيادة تعظيمهم له تسبب لمباشرته إياه ، أو تقريرا لنفسه مع الاستهزاء والتبكيت على أسلوب تعريضي كما لو قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته بخط رشيق : أأنت كتبت هذا فقلت بل كتبته أنت ، أو حكاية لما يلزم من مذهبهم جوازه ، وقيل إنه في المعنى متعلق بقوله { إن كانوا ينطقون } وما بينهما اعتراض أو ضمير { فتى } أو { إبراهيم } ، وقوله { كبيرهم هذا } مبتدأ وخبر ولذلك وقف على فعله . وما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال " لإبراهيم ثلاث كذبات " تسمية للمعاريض كذبا لما شابهت صورتها صورته .
فقال لهم إبراهيم عليه السلام { بل فعله كبيرهم } هذا على معنى الاحتجاج عليهم أي إنه غار من أن يعبد وتعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك ، وقالت فرقة هي الأكثر إن هذا الكلام قاله إبراهيم عليه السلام لأنها كذبة في ذات الله تؤدي إلى خزي قوم كافرين والحديث الصحيح يقتضي ذلك وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ، «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات : قوله { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وقوله { بل فعله كبيرهم هذا } وقوله للملك هي اختي »{[2]} ثم تطرق إلى موضع خزيهم بقوله { فاسألوهم إن كانوا ينطقون } على جهة التوقيف ع وذهبت فرقة إلى نفي الكذب عن هذه المقالات ، وقالت فرقة معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «لم يكذب إبراهيم » أي لم يقل كلاماً ظاهره الكذب أو يشبه الكذب وذهبت إلى تخريج هذه المقالات فخرجت هذه الآية على معنى أنه أراد تعليق فعل الكبير بنطق الآخرين كأنه قال بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء ولم يخرج الخبر ، على أن الكبير فعل ذلك ، وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله { فاسألوهم } وذهب الفراء إلى جهة أخرى بأن قال قوله { فعله } ليس من الفعل وإنما هو فلعله على جهة التوقع حذف اللام على قولهم عله بمعنى لعله ثم خففت اللام{[3]} ع وهذا تكلف{[4]} .