{ وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } - أيضا - ونزهه عن كل مالا يليق به ، { وَأَدْبَارَ السجود } أى : وفى أدبار وأعقاب الصلوات فأكثر من تسبيحه - عز وجل - وتقديسه .
ومن الأحاديث التى وردت فى فضل التسبيح بعد الصلوات المكتوبة ، ما ثبت فى الصحيحين عن أبى هريرة - أنه قال : " " جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله ، ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم . فقال : " وما ذاك " ؟ قالوا : يصلون كما نصلى ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق . فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أفلا أعلمكم شيئا إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ، ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من فعل مثل ما فعلتم ؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين " .
قال : فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلناه ففعلوا مثله .
فقال - صلى الله عليه وسلم - : " ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء " " .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى }
وعقب عليها كذلك بإيحاء جديد وظل جديد :
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود . .
وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب . . كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض . وهو يربط إليها التسبيح والحمد والسجود . ويتحدث في ظلالها عن الصبر على ما يقولون من إنكار للبعث وجحود بقدرة الله على الإحياء والإعادة . فإذا جو جديد يحيط بتلك اللمسة المكررة . جو الصبر والحمد والتسبيح والسجود . موصولا كل ذلك بصفحة الكون وظواهر الوجود ، تثور في الحس كلما نظر إلى السماوات والأرض ؛ وكلما رأى مطلع الشمس ، أو مقدم الليل ؛ وكلما سجد لله في شروق أو غروب . .
وقوله : وَمِنَ اللّيْل فَسَبّحْهُ اختلف أهل التأويل في التسبيح الذي أُمر به من الليل ، فقال بعضهم : عنى به صلاة العَتَمة . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنَ اللّيْلِ قال : العَتَمة .
وقال آخرون : هي الصلاة بالليل في أيّ وقت صلى . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ قال : من الليل كله .
والقول الذي قاله مجاهد في ذلك أقرب إلى الصواب ، وذلك أن الله جلّ ثناؤه قال : وَمَنِ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ فلم يَحُدّ وقتا من الليل دون وقت . وإذا كان ذلك كذلك كان على جميع ساعات الليل . وإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ، فهو بأن يكون أمرا بصلاة المغرب والعشاء ، أشبه منه بأن يكون أمرا بصلاة العَتَمة ، لأنهما يصلّيان ليلاً .
وقوله : وأدْبارَ السّجُودِ يقول : يقول : سبح بحمد ربك أدبار السجود من صلاتك .
واختلف أهل التأويل في معنى التسبيح الذي أمر الله نبيه أن يسبحه أدبار السجود ، فقال بعضهم : عُنِي به الصلاة ، قالوا : وهما الركعتان اللتان يصليان بعد صلاة المغرب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، قال : سألت عليا ، عن أدبار السجود ، فقال : الركعتان بعد المغرب .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قال : قال عليّ رضي الله عنه : أدْبارَ السّجُودِ : الركعتان بعد المغرب .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا مصعب بن سلام ، عن الأجلح ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، قال : سمعت عليا رضي الله عنه يقول : أدْبارَ السّجُودِ : الركعتان بعد المغرب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قوله : وأدْبارَ السّجُودِ قال : الركعتان بعد المغرب .
قال : حدثنا ثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن عاصم بن ضمرة ، عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما ، قال : أدْبارَ السّجُودِ : الركعتان بعد المغرب .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا حماد ، قال : حدثنا عليّ بن زيد ، عن أوس بن خالد ، عن أبي هريرة ، قال : أدبار السجود : ركعتان بعد صلاة المغرب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن علوان بن أبي مالك ، عن الشعبيّ ، قال : أدْبارَ السّجُودِ الركعتان بعد المغرب .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس وإبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد أدْبارَ السّجُودِ : الركعتان بعد المغرب .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن إبراهيم في هذه الاَية وَمِنَ اللّيْلِ فَسَبّحْهُ وأدْبارَ السّجُودِ وَإدْبَارَ النّجُومِ قال : الركعتان قبل الصبح ، والركعتان بعد المغرب ، قال شعبة : لا أدري أيتهما أدبار السجود ، ولا أدري أيتهما إدبار النجوم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وأدْبارَ السّجُودِ قال : كان مجاهد يقول : ركعتان بعد المغرب .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وأدْبارَ السّجُودِ قال : هما السجدتان بعد صلاة المغرب .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو فضيل ، عن رشدين بن كُرَيب ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يا ابْنَ عَبّاس رَكْعَتانِ بَعْدَ المَغْرِب أدْبارَ السّجُود » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو زرعة ، وهبة الله بن راشد ، قال : أخبرنا حيوة بن شريح ، قال : أخبرنا أبو صخر ، أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول : سمعت أبا الصهباء البكريّ يقول : سألت عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن أدْبارَ السّجُودِ قال : هما ركعتان بعد المغرب .
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : حدثنا بقية ، قال : حدثنا جرير ، قال : حدثنا حمير بن يزيد الرحبي ، عن كُرَيب بن يزيد الرحبي قال : وكان جبير بن نفير يمشي إليه ، قال : كان إذا صلى الركعتين قبل الفجر ، والركعتين بعد المغرب أخفّ ، وفسّر إدبار النجوم ، وأدبار السجود .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن عيسى بن يزيد ، عن أبي إسحاق الهمداني ، عن الحسن وأدْبارَ السّجُودِ : الركعتان بعد المغرب .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن المغُيرة ، عن إبراهيم ، قال : كان يقال : أدْبارَ السّجُودِ : الركعتان بعد المغرب .
قال : ثنا عنبسة ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد وأدْبارَ السّجُودِ : الركعتان بعد المغرب .
قال : ثنا جرير ، عن عطاء ، قال : قال عليّ : أدبار السجود : الركعتان بعد المغرب .
حدثنا ابن البرّ ، قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، قال : سُئل الأوزاعيّ عن الركعتين بعد المغرب ، قال : هما في كتاب الله فَسَبّحْهُ وأدْبارَ السّجُودِ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن حُمَيد ، عن الحسن ، عن عليّ رضي الله عنه ، في قوله : وأدْبارَ السّجُودِ قال : الركعتان بعد المغرب .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وأدْبارَ السّجُودِ قال : ركعتان بعد المغرب .
وقال آخرون : عنى بقوله وأدْبارَ السّجُودِ : التسبيح في أدبار الصلوات المكتوبات ، دون الصلاة بعدها . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عباس في فَسَبّحْهُ وأدْبارَ السّجُودِ قال : هو التسبيح بعد الصلاة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : وأدْبارَ السّجُودِ قال : كان ابن عباس يقول : التسبيح . قال ابن عمرو : في حديثه في إثر الصلوات كلها . وقال الحارث في حديثه في دُبر الصلاة كلها .
وقال آخرون : هي النوافل في أدبار المكتوبات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وأدْبارَ السّجُودِ : النوافل .
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة ، قول من قال : هما الركعتان بعد المغرب ، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك ، ولولا ما ذكرت من إجماعها عليه ، لرأيت أن القول في ذلك ما قاله ابن زيد ، لأن الله جلّ ثناؤه لم يخصص بذلك صلاة دون صلاة ، بل عمّ أدبار الصلوات كلها ، فقال : وأدبار السجود ، ولم تقم بأنه معنيّ به : دبر صلاة دون صلاة ، حجة يجب التسليم لها من خبر ولا عقل .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وأدْبارَ السّجُودِ فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة ، سوى عاصم والكسائيّ «وإدْبارَ السّجُودِ » بكسر الألف ، على أنه مصدر أدبر يُدبر إدبارا . وقرأه عاصم والكسائيّ وأبو عمرو وأدْبارَ بفتح الألف على مذهب جمع دبر وأدبار .