ثم حكى القرآن الكريم رد موسى - عليه السلام - على مفترياتهم فقال : { قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } .
وفى الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام ، والتقدير :
قال موسى لفرعون وملئه منكرا عليهم غرورهم وكذبهم ، { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ } الذي هو أبعد ما يكون عن السحر ، حين مشاهدتكم له .
يا سبحانن الله ! ! أفلا عقل لكم يحجزكم عن هذا القول الذي يدل على الجهالة والغباء ، انظروا وتأملوا { أَسِحْرٌ هذا } الذي ترون حقيقته بأعينكم ، وترتجف من عظمته قلوبكم ، والحال أنه { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } في أى عمل من شأنه أن يهدى إلى الخير والحق .
فقد حذفت جملة { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } لدلالة قوله { أَسِحْرٌ هذا } عليه .
قال صاحب الكشاف : " فإن قلت : هم قطعوا بقولهم : إن هذا لسحر مبين ، على أنه سحر فكيف قيل لهم أتقولون : أسحر هذا ؟
قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ } : أتعيبونه وتطعنون فيه ، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه ، من قولهم : فلان يخاف القالة ، وبين الناس تقاول ، إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه .
وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم : { إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } كأنه قيل : أتقولون ما تقولون : يعنى قولهم : إن هذا لسحر مبين ، ثم قيل : أسحر هذا ؟
وأن يكون جملة قوله " أسحر هذا ولا يفلح الساحرون " حكاية لكلامهم ، كأنهم قالوا أجئتما إلينا بالسحر تطلبان به الفلاح { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون . . } .
وقال الجمل : " قوله - تعالى - { قَالَ موسى أَتقُولُونَ . . } أى : قال جملا ثلاثة : الأولى : { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } والثانية { أَسِحْرٌ هذا } والثالثة { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } .
وقوله { الحق } أى في شأنه ولأجله ، وقوله { لَمَّا جَآءَكُمْ } أى : حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبر ، وهذا مما ينافي القول المذكور .
وقوله : { قَالَ موسى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ } هنا مقول القول محذوف لدلالة ما قبله عليه ، وإِشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتفوه به .
وقوله - سبحانه - حكاية عن موسى { أَسِحْرٌ هذا } مبتدأ وخبر ، وهو استفهام إنكار مستأنف من جهته - عليه السلام - تكذيبا لقولهم ، وتوبيخا إثر توبيخ ، وتجهيلا بعد تجهيل .
وقوله : { وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون } جملة حالية من ضمير المخاطبين ، وقد جئ بها تأكيدا للإِنكار السابق ، وما فيه من معنى التوبيخ والتجهيل .
أى : أتقولون للحق إنه سحر ، والحال أنه لا يفلح فاعله ، أى : لا يظفر بمطلوب ، ولا ينجو من مكروه ، وأنا قد أفلحت ، وفزت بالحجة ، ونجوت من الهلكة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ مِنْ عِندِنَا قَالُوَاْ إِنّ هََذَا لَسِحْرٌ مّبِينٌ * قَالَ مُوسَىَ أَتقُولُونَ لِلْحَقّ لَمّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هََذَا وَلاَ يُفْلِحُ السّاحِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : فَلَمّا جاءَهُم الحَقّ مِنْ عِنْدِنا يعني : فلما جاءهم بيان ما دعاهم إليه موسى وهارون ، وذلك الحجج التي جاءهم بها ، وهي الحقّ الذي جاءهم من عند الله قالُوا إنّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ يعنون : أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له . قالَ مُوسَى لهم : أتَقُولُونَ للْحَقّ لَمَا جَاءكُمْ من عند الله : أسحْرُ هَذَا ؟ .
واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله : أسِحْرٌ هَذَا ، فقال بعض نحويي البصرة : أدخلت فيه على الحكاية لقولهم لأنهم قالوا : أسحر هذا ؟ فقال : أتقولون : أسحر هذا ؟ وقال بعض نحويي الكوفة : إنهم قالوا هذا سحر ، ولم يقولوه بالألف ، لأن أكثر ما جاء بغير ألف . قال : فيقال : فلم أدخلت الألف ؟ فيقال : قد يجوز أن تكون من قيلهم وهم يعلمون أنه سحر ، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته : أحقّ هذا ؟ وقد علم أنه حقّ . قال : قد يجوز أن تكون على التعجب منهم : أسحر هذا ، ما أعظمه
وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المقول محذوفا ، ويكون قوله : أسِحْرٌ هَذَا من قيل موسى منكرا على فرعون وملئه قولهم للحقّ لما جاءهم سحر ، فيكون تأويل الكلام حينئذ : قال موسى لهم : أتَقُولُونَ للحَقّ لما جاءَكُمْ وهي الاَيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه ، سحر ، أسحر هذا الحقّ الذي ترونه ؟ فيكون السحر الأوّل محذوفا اكتفاء بدلالة قول موسى أسِحْرٌ هَذَا على أنه مراد في الكلام ، كما قال ذو الرمّة :
فَلَمّا لَبِسْنَ اللّيْلَ أوْ حِينَ نَصّبَتْ *** لهُ من خَذَا آذَانها وَهْوَ جانِحُ
يريد : «أو حين أقبل » ، ثم حذف اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، وكما قال جلّ ثناؤه : فإذَا جاءَ وَعْد الاَخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ والمعنى : بعثناهم ليسوؤا وجوهكم ، فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه ، في أشباه لما ذكرنا كثيرة يُتعب إحصاؤها . وقوله : ولا يُفْلِحُ السّاحِرُونَ يقول : ولا ينجح الساحرون ولا يبقون .
جملة : { قال موسى } مجاوبة منه عن كلامهم ففُصلت من العطف على الطريقة التي استخرجناها في حكاية الأقوال ، كما تقدم في قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة ، إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] ، ونظائره الكثيرة . تولى موسى وحده دون هارون مجادلتهم لأنه المباشر للدعوة أصالة ، ولأن المعجزات ظهرت على يديه .
واستفهام { أتقولون } إنكاري . واللام في { للحق } لام التعليل . وبعضهم يسميها لام البيان . وبعضهم يسميها لام المجاوزة بمعنى ( عن ) .
وجملة : { أسحر هذا } مستأنفة للتوبيخ والإنكار ، أنكر موسى عليهم وصفهم الآيات الحق بأنها سحر . والإشارة تفيد التعريض بجهلهم وفساد قولهم ، بأن الإشارة إلى تلك الآيات كافية في ظهور حقيقتها وأنها ليست من السحر في شيء . ولذلك كان مفعول { أتقولون } محذوفاً لدلالة الكلام عليه وهو { إنّ هذا لسحر مبين } فالتقدير : أتقولون هذا القول للحق لمَّا جاءكم . وقريب منه قوله تعالى : { قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قُلتم } [ آل عمران : 183 ] وقوله : { بَيَّت طائفة منهم غير الذي تقول } [ النساء : 81 ] .
ولما نفى موسى عن آيات الله أن تكون سحراً ارتقى فأبان لهم فساد السحر وسوء عاقبة معالجيه تحقيراً لهم ، لأنهم كانوا ينوّهون بشأن السحر . فجملة : { ولا يفلح الساحرون } معطوفة على جملة : { أسحر هذا } .
فالمعنى : هذا ليس بسحر وإنما أعلم أن الساحر لا يفلح ، أي لو كان ساحراً لما شنع حال الساحرين ، إذ صاحب الصناعة لا يحقر صناعته لأنه لو رآها محقرة لما التزمها .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.