ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بعد أن نزل بهم العذاب ، فقال : { وَقَالُواْ ياأيها الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } .
وجمهور المفسرين على أن قولهم هذا ، كان على سبيل التعظيم لموسى - عليه السلام - لأنهم كانوا يوقرون السحرة ، ويعتبرونهم العلماء .
قال ابن كثير : قوله { ياأيه الساحر } أى : العالم . . . وكان علماء زمانهم هم السحرة ، ولم يكن السحر عندهم فى زمانهم مذموما ، فليس هذا منهم على سبيل الانتقاص ، لأن الحال حال ضرورة منهم إليه ، فهى تقتضى تعظيمهم لموسى - عليه السلام - . .
و { مَا } فى قوله : { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } مصدرية : أى : بعهده عندك ، والمراد بهذا العهد : النبوة . وسميت عهدا ، لأن الله - تعالى - عاهد نبيه أن يكرمه بها ، أو لأن لها حقوقا تحفظ كما يحفظ العهد .
وقوله : { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } مرتب على كلام محذوف .
أى : وحين أخذنا فرعون وقومه بالعذاب ، قالوا لموسى - على سبيل التذلل والتعظيم من شأنه - يأيها الساحر الذى غلبنا بسحره وعلمه ، ادع لنا ربك بحق عهده إليك بالنبوة ، لئن كشف عنا ربك هذا العذاب الذى نزل بنا { إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ } أى إننا لمؤمنون ثابتون على ذلك ، متبعون لك فى كل ما تأمرنا به أو تنهانا عنه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ( 49 ) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ( 50 )
يقول تعالى ذكره : وقال فرعون وملؤه لموسى : ( يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ) وعنوا بقولهم " بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ " : بعهده الذي عهد إليك أنا إن آمنا بك واتبعناك ، كُشف عنا الرِّجْز .
كما حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ؛ وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله عزّ وجلّ ( بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ ) قال لئن آمنا ليكشفن عنا العذاب .
إن قال لنا قائل : وما وجه قيلهم يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك ، وكيف سموه ساحرا وهم يسألونه أن يدعو لهم ربه ليكشف عنهم العذاب ؟ قيل : إن الساحر كان عندهم معناه : العالم ، ولم يكن السحر عندهم ذما ، وإنما دعوه بهذا الاسم ، لأن معناه عندهم كان : يا أيها العالم .
وقوله : ( إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ) يقول : قالوا : إنا لمتبعوك فمصدّقوك فيما جئتنا به ، وموحدو الله فمبصرو سبيل الرشاد .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ) قال : قالوا يا موسى : ادع لنا ربك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننّ لك .
عطف على { وأخذناهم بالعذاب } [ الزخرف : 48 ] . والمعنى : ولما أخذناهم بالعذاب على يد موسى سألوه أن يدعو الله بكشف العذاب عنهم . ومخاطبتهم موسى بوصف الساحر مخاطبة تعظيم تزلفاً إليه لأن الساحر عندهم كان هو العالم وكانت علوم علمائهم سِحرية ، أي ذات أسباب خفية لا يعرفها غيرهم وغيرُ أتباعهم ، ألاَ تَرى إلى قول ملأ فرعون له { وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سَحَّار عليم } [ الشعراء : 36 ، 37 ] .
وكان السحر بأيدي الكهنة ومن مَظاهره تحنيط الموتى الذي بقيت به جثث الأموات سالمة من البِلى ولم يطلع أحد بعدهم على كيفية صنعه . وفي آية الأعراف ( 134 ) { قالوا يا موسى ادعُ لنا ربّك } ولا تُنافي ما هنا لأن الخطاب خطاب إلحاححٍ فهو يتكرر ويعاد بطرق مختلفة .
وقرأ الجمهور { باأيه الساحر } بدون ألف بعد الهاء في الوصل وهو ظاهر ، وفي الوقف أي بفتحة دون ألف وهو غير قياسي لكن القراءة رواية . وعلله أبو شامة بأنهم اتبعوا الرّسم وفيه نظر . وقرأه أبو عمرو والكسائي ويعقوب بإثبات الألف في الوقف . وقرأه ابن عامر بضم الهاء في الوصل خاصة وهو لغة بني أسد ، وكتبت في المصحف كلمة { أيُّهَ } بدون ألف بعد الهاء ، والأصل أن تكون بألف بعد الهاء لأنها ( ها ) حرف تنبيه يفصل بين ( أيّ ) وبين نعتها في النداء فحذفت الألف في رسم المصحف رعياً لقراءة الجمهور والأصل أن يراعى في الرسم حالة الوقف .
وعنَوا ب { ربّك } الرب الذي دعاهم موسى إلى عبادته . والقبط كانوا يحسبون أن لكل أمةٍ ربّاً ولا يحيلون تعدد الآلهة ، وكانت لهم أرباب كثيرون مختلفة أعمالهم وقُدَرهم ومثل ذلك كانت عقائد اليونان .
وأرادوا { بما عهد عندك } ما خصك بعلمه دون غيرك مما استطعت به أن تأتي بخوارق العادة . وكانوا يحسبون أن تلك الآيات معلولة لعلل خفية قياساً على معارفهم بخصائص بعض الأشياء التي لا تعرفها العامة ، وكان الكهنة يعهدون بها إلى تلامذتهم ويوصونهم بالكتمان .
والعهد : هو الائتمان على أمر مهمّ ، وليس مرادهم به النبوءة لأنهم لم يؤمنوا به وإذ لم يعرفوا كنه العهد عبروا عنه بالموصول وصلته . والباء في قوله : { بما عهد عندك } متعلقة ب { ادع } وهي للاستعانة . ولما رأوا الآيات علموا أن رب موسى قادر ، وأن بينه وبين موسى عهداً يقتضي استجابة سؤله .
وجملة { إننا لمهتدون } جواب لكلام مقدر دل عليه { ادع لنا ربك } أي فإن دعوت لنا وكشفت عنا العذاب لنُؤمَنَنّ لك كما في آية الأعراف ( 134 ) { لئن كشفت عنا الرِّجْزَ لنؤمنَنّ لك } الآية . ف ( مهتدون ) اسم فاعل مستعمل في معنى الوعد وهو منصرف للمستقبل بالقرينة كما دلّ عليه قوله : { ينكثون } [ الزخرف : 50 ] ونظيره قوله في سورة الدخان ( 12 ، 13 ) حكاية عن المشركين { ربنا اكشف عنّا العذاب إنا مؤمنون أنّى لهم الذكرى } الآية . وسَمَّوا تصديقهم إياه اهتداء لأن موسى سمى ما دَعاهم إليه هَدْياً كما في آية النازعات ( 19 ) { وأهْدِيَكَ إلى ربّك فتخشى } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.