ثم بين - سبحانه - ما يجرى على الناس فى هذا اليوم فقال : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } .
والعرض أصله : إظهار الشئ لمن يريد التأمل فيه ، أو الحصول عليه ، ومنه عرض البائع سلعته على المشترى .
وهو هنا كناية عن لازمه وهو المحاسبة .
أى : فى هذا اليوم تعرضون للحساب والجزاء ، لا تخفى منكم خافية ، أى تعرضون للحساب ، دون أن يخفى منكم أحد على الله - تعالى - أو دون أن تخفى منكم نفس واحدة على خالقها - عز وجل - .
قال الجمل : وقوله : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ } أى : تسألون وتحاسبون ، وعبر عنه بذلك تشبيها له بعرض السلطان العسكر والجند ، لينظر فى أمرهم فيختار منهم المصلح للتقريب والإِكرام ، والمفسد للإِبعاد والتعذيب .
وقوله : يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُم خافِيَةُ يقول تعالى ذكره : يومئذٍ أيها الناس تعرضون على ربكم ، وقيل : تعرضون ثلاث عرضات . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن قزعة الباهليّ ، قال : حدثنا وكيع بن الجراح ، قال : حدثنا عليّ بن عليّ الرفاعيّ ، عن الحسن ، عن أبي موسى الأشعري ، قال : «تُعرض الناس ثلاث عرضات ، فأما عرضتان فجدال ومعاذير . وأما الثالثة ، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي ، فآخذٌ بيمينه ، وآخذٌ بشماله » .
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سليمان بن حيان ، عن مروان الأصغر ، عن أبي وائل عن عبد الله ، قال : «يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : عرضتان معاذير وخصومات ، والعرضة الثالثة تطيّر الصحف في الأيدي » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : «يُعرضُ الناس ثلاث عرضات يوم القيامة ، فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير وجدال . وأما العرضة الثالثة فتطيّر الصحف في الأيدي » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، بنحوه .
وقوله : لا تَخْفَى مِنْكُمْ خافِيَةٌ يقول جلّ ثناؤه : لا تخفى على الله منكم خافية ، لأنه عالم بجميعكم ، محيط بكلكم .
الخطاب في قوله تعالى : { تعرضون } لجميع العالم ، وروي عن أبي موسى الأشعري وابن مسعود أن في القيامة عرضتين فيهما معاذير وتوقيف وخصومات وجدال ، ثم تكون عرضة ثالثة تتطاير فيها الصحف بالأيمان والشمائل . وقرأ حمزة والكسائي : «لا يخفى » ، بالياء وهي قراءة علي بن أبي طالب وابن وثاب وطلحة والأعمش وعيسى ، وقرأ الباقون : بالتاء على مراعاة تأنيث { خافية } وهي قراءة الجمهور ، وقوله تعالى : { خافية } معناه ضمير ولا معتقد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يومئذ تعرضون} على الله فيحاسبكم بأعمالكم.
{لا تخفى منكم خافية}: لا يخفى الصالح منكم، ولا الطالح إذا عرضتم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُم خافِيَةُ "يقول تعالى ذكره: يومئذٍ أيها الناس تعرضون على ربكم،... عن أبي موسى الأشعري، قال: «تُعرض الناس ثلاث عرضات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير. وأما الثالثة، فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذٌ بيمينه، وآخذٌ بشماله»...
" لا تَخْفَى مِنْكُمْ خافِيَةٌ ": لا تخفى على الله منكم خافية، لأنه عالم بجميعكم، محيط بكلكم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
العرض: عبارة عن المحاسبة والمساءلة.
الغرض منه المبالغة في التهديد، يعني تعرضون على من لا يخفى عليه شيء أصلا...وفي هذا أعظم الزجر والوعيد وهو خوف الفضيحة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بلغ النهاية في تحذير العباد من يوم التناد، وكان لهم حالتان: خاصة وعامة، فالعامة العرض، والخاصة التقسيم إلى محسن ومسيء، زاده عظماً بقوله: {يومئذ} أي إذا كان ما تقدم.
ولما كان المهول نفس العرض، بنى فعله للمفعول ولأنه كلام القادرين فقال: {تعرضون} أي على الله سبحانه وتعالى للحساب كما يعرض السلطان الجند لينظر في أمرهم ليختار منهم المصلح للإكرام والتقريب والإثابة، والمفسد للإبعاد والتعذيب والإصابة، عبر عن الحساب بالعرض الذي هو جزؤه، فالمحسن لا يكون له غير ذلك والمسيء يناقش {لا تخفى منكم} أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه {لا تخفى منكم} أي في ذلك اليوم على أحد بوجه من الوجوه {خافية} أي لا يقع أصلاً على حال من الأحوال شيء من خفاء لشيء كان من حقه الخفاء في الدنيا لا من الأعمال ولا من الأنفس وإن كان في غاية الدقة والغموض لأن ذلك يوم الظهور التام من القبور ومن الصدور، وغير ذلك من الأمور، ليكون ذلك أجل لسعادة من سعد، وأقبح لشقاوة من شقي فأبعد.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وليس ذلك العرض عليه سبحانه ليعلم به ما لم يكن عالماً به. وإنما عرض الاختبار والتوبيخ بالأعمال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية).. فالكل مكشوف. مكشوف الجسد، مكشوف النفس، مكشوف الضمير، مكشوف العمل، مكشوف المصير. وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجب الأسرار، وتتعرى النفوس تعري الأجساد، وتبرز الغيوب بروز الشهود.. ويتجرد الإنسان من حيطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصا على أن يستره حتى عن نفسه! وما أقسى الفضيحة على الملأ. وما أخزاها على عيون الجموع! أما عين الله فكل خافية مكشوفة لها في كل آن. ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حق الشعور، وهو مخدوع بستور الأرض. فها هو ذا يشعر به كاملا وهو مجرد في يوم القيامة. وكل شيء بارز في الكون كله. الأرض مدكوكة مسواة لا تحجب شيئا وراء نتوء ولا بروز. والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئا، والأجسام معراة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر وليس فيها سر! ألا إنه لأمر عصيب. أعصب من دك الأرض والجبال، وأشد من تشقق السماء! وقوف الإنسان عريان الجسد، عريان النفس، عريان المشاعر، عريان التاريخ، عريان العمل ما ظهر منه وما استتر. أمام تلك الحشود الهائلة من خلق الله، من الإنس والجن والملائكة، وتحت جلال الله وعرشه المرفوع فوق الجميع.. وأن طبيعة الإنسان لمعقدة شديدة التعقيد؛ ففي نفسه منحنيات شتى ودروب، تتخفى فيها نفسه وتتدسس بمشاعرها ونزواتها وهفواتها وخواطرها وأسرارها وخصوصياتها. وإن الإنسان ليصنع أشد مما تصنعه القوقعة الرخوة الهلامية حين تتعرض لوخزة إبرة، فتنطوي سريعا، وتنكمش داخل القوقعة، وتغلق على نفسها تماما. إن الإنسان ليصنع أشد من هذا حين يحس أن عينا تدسست عليه فكشفت منه شيئا مما يخفيه، وأن لمحة أصابت منه دربا خفيا أو منحنى سريا! ويشعر بقدر عنيف من الألم الواخز حين يطلع عليه أحد في خلوة من خلواته الشعورية.. فكيف بهذا المخلوق وهو عريان. عريان حقا. عريان الجسد والقلب والشعور والنية والضمير. عريان من كل ساتر. عريان... كيف به وهو كذلك تحت عرش الجبار، وأمام الحشد الزاخر بلا ستار؟! ألا إنه لأمر، أمر من كل أمر!!!
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.