التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ} (67)

ثم بين - سبحانه - جانباً من مظاهر نعمه على عباده فقال - تعالى - { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً . . . }

أى : الله وحده - سبحانه - هو الذي جعل لكم الليل مظلماً ، لكي تستقروا فيه بعد طول الحركة في نهاركم من أجل معاشكم ، وهو الذي جعل لكم النهار مضيئا لكي تبصروا فيه مطالب حياتكم .

والجملة الكريمة بيان لمظاهر رحمة الله - تعالى - بعباده ، بعد بيان سعة علمه ، ونفاذ قدرته ، وشمولها لكل شيء في هذا الكون .

وقوله : { إِنَّ في ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أى : إن في ذلك الجعل المذكور لدلائل واضحات لقوم يسمعون ما يتلى عليهم سماع تدبر وتعقل ، يدل على سعة رحمة الله - تعالى - بعباده ، وتفضله عليهم بالنعم التي لا تحصى .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ} (67)

القول في تأويل قوله تعالى : { هُوَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْلّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنّهَارَ مُبْصِراً إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } .

يقول تعالى ذكره : إن ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة هُوَ الربّ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللّيْلَ وفصله من النهار ، لِتَسْكُنُوا فِيهِ مما كنتم فيه في نهاركم من التعب والنصب ، وتهدءوا فيه من التصرّف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار . والنّهارَ مُبْصِرا يقول : وجعل النهار مبصرا ، فأضاف الإبصار إلى النهار ، وإنما يبصر فيه ، وليس النهار مما يُبْصِر ولكن لمّا كان مفهوما في كلام العرب معناه ، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم ، وذلك كما قال جرير :

لَقَدْ لُمْتِنا يا أُمّ غَيْلانَ فِي السّرَى *** ونِمْتِ وَما لَيْلُ المَطِيّ بِنائِمِ

فأضاف النوم إلى الليل ووصفه به ، ومعناه نفسه أنه لم يكن نائما فيه هو ولا بعيره . يقول تعالى ذكره : فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون ، لا ما لا ينفع ولا يضرّ ولا يفعل شيئا .

وقوله : إنّ فِي ذلكَ لاََياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ يقول تعالى ذكره : إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما دلالة وحججا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك ، هو الذي خلق اللّيل والنهار وخالف بينهما ، بأن جعل هذا للخلق سكنا وهذا لهم معاشا ، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئا ولا يضرّ ولا ينفع . وقال : لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ لأن المراد منه : الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها فيعتبرون بها ويتعظون ، ولم يرد به الذين يسمعون بآذانهم ثم يعرضون عن عبره وعظاته .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يَسۡمَعُونَ} (67)

لما نص عظمة الله تعالى في الآية المتقدمة عقب ذلك في هذه بالتنبيه على أفعاله لتبين العظمة المحكوم بها قبل ، وقوله { لتسكنوا } دال على أن النهار للحركة والتصرف ، وكذلك هو في الوجود ، وذلك أن حركة الليل متعذرة بفقد الضوء ، وقوله { والنهار مبصراً } مجاز لأن النهار لا يبصر ولكنه ظرف للإبصار ، وهذا موجود في كلام العرب إذ المقصود من ذلك مفهوم ، فمن ذلك قول ذي الرمة : [ الطويل ]

لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى*** ونمت وما ليل المطي بنائم{[6161]}

وليس هذا من باب النسب كعيشة راضية ونحوها . وإنما ذلك مثل قول الشاعر : [ الكامل ]

أما النهار ففي قيد وسلسلة*** والليل في بيت منحوت من الساج{[6162]}

فجعل الليل والنهار بهاتين الحالتين وليس يريد إلا أنه هو فيهما كذلك ، وهذا البيت لمسجون كان يبيت في خشبة السجن ، وعلى أن هذا البيت قد ينشد «أما النهار » بالنصب ، وفي هذه الألفاظ إيجاز وإحالة على ذهن السامع لأن العبرة هي في أن الليل مظلم يسكن فيه والنهار مبصر يتصرف فيه ، فذكر طرف من هذا والطرف الآخر من الجهة الثانية ودل المذكوران على المتروكين ، وهذا كما في قوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع }{[6163]} . وقوله { يسمعون } يريد ويعون .


[6161]:- البيت لجرير لا لذي الرمّة، وهو البيت رقم (6) من قصيدة له يجيب بها الفرزدق، ومطلعها: لا خير في مستعجلات الملاوم ولا في خليل وصله غير دائم وأم غيلان: ابنة جرير، والسُّرى: السير بالليل، وقد أسند النوم إلى الليل على سبيل المجاز العقلي وأراد أنه هو نفسه لا ينام، والإسناد إلى ظرف زمان هو الليل، والنوم يقع فيه.
[6162]:-السّاج: خشب أسود لا تكاد الأرض تبليه يُجلب من الهند، وواحدته: ساجة، وقد جعل الشاعر النهار مقيدا بالسلاسل، والليل محبوسا في بيت من الخشب الأسود المتين، وهو يريد أن يصف نفسه بذلك، ولم نقف على قائله فيما لدينا من المراجع.
[6163]:- من الآية (171) من سورة (البقرة).