التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (64)

وبعد أن بين - سبحانه - مظاهر نعمه عن طريق الزمان - الليل والنهار - أتبع ذلك ببيان نعمه عن طريق المكان - الأرض والسماء - فقال : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً } أى : جعل الأرض مكانا لاستقراركم عليها ، والسعى فيها .

{ والسمآء بِنَآء } أى : وجعل لكم السماء بمنزلة القبة المبنية المضروبة فوق رءوسكم فأنتم ترونها بأعينكم مرفوعة فوقكم بغير عمد .

قال الآلوسى قوله : { والسمآء بِنَآء } أى : قبة ، ومنه أبنية العرب لقبابهم التى تضرب . وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه ، وهو تشبيه بليغ . وفيه إشارة لكرويتها . وهذا بيان لفضله - تعالى - المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان .

وقوله : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } بيان لفضله - تعالى - المتعلق بذواتهم . أى : جعل لكم الأرض مستقرا ، والسماء بناء ، وصور أشكالكم فى أحسن تقويم . وأجمل هيئة . كما قال - تعالى - : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } أى : ورزقكم من الرزق الطيب الحلال المستلذ .

{ ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } أى : ذلكم الذى أعطاكم تلك النعم المتعلقة بزمانكم ، ومكانكم ، وذواتكم ، ومطعمكم ومشربكم . هو الله ربكم الذى لا تولاكم بتربيته ورعايته فى جميع أطوار حياتكم فتبارك الله - تعالى - وتعاظم فى ذاته وفى صفاته ، فهو رب العالمين ومالك أمرهم .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (64)

القول في تأويل قوله تعالى : { اللّهُ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَاراً وَالسّمَآءَ بِنَآءً وَصَوّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَتَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيّ لاَ إِلََهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الْحَمْدُ للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } .

يقول تعالى ذكره : اللّهُ الذي له الألوهة خالصة أيها الناس الّذي جَعَلَ لَكُمْ الأرْضَ التي أنتم على ظهرها سكان قَرَارا تستقرون عليها ، وتسكنون فوقها ، والسّماءَ بِناءً : بناها فرفعها فوقكم بغير عمد ترونها لمصالحكم ، وقوام دنياكم إلى بلوغ آجالكم وَصَوّرَكمْ فَأحْسَنَ صُوَرَكُمْ يقول : وخلقكم فأحسن خلقكم وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطّيّباتِ يقول : ورزقكم من حلال الرزق ، ولذيذات المطاعم والمشارب . وقوله : ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ يقول تعالى ذكره : فالذي فعل هذه الأفعال ، وأنعم عليكم أيها الناس هذه النعم ، هو الله الذي لا تنبغي الألوهة إلا له ، وربكم الذي لا تصلح الربوبية لغيره ، لا الذي لا ينفع ولا يضرّ ، ولا يخلق ولا يرزق فَتَبارَكَ اللّهُ رَبّ العَالمِينَ يقول : فتبارك الله مالك جميع الخلق جنهم وإنسهم ، وسائر أجناس الخلق غيرهم هُوَ الحَيّ يقول : هو الحيّ الذي لا يموت ، الدائم الحياة ، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها لا إلَهَ إلاّ هُوَ يقول : لا معبود بحقّ تجوز عبادته ، وتصلح الألوهة له إلا الله الذي هذه الصفات صفاته ، فادعوه أيها الناس مخلصين له الدين ، مخلصين له الطاعة ، مفردين له الألوهة ، لا تشركوا في عبادته شيئا سواه ، من وثن وصنم ، ولا تجعلوا له ندا ولا عِدلاً الحَمْدُ للّهِ رَبّ العَالمِينَ يقول : الشكر لله الذي هو مالك جميع أجناس الخلق ، من مَلك وجنّ وإنس وغيرهم ، لا للاَلهة والأوثان التي لا تملك شيئا ، ولا تقدر على ضر ولا نفع ، بل هو مملوك ، إن ناله نائل بسوء لم يقدر له عن نفسه دفعا .

وكان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال : لا إله إلا الله ، أن يتبع ذلك : الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالمِينَ تأولاً منهم هذه الاَية ، بأنها أمر من الله بقيل ذلك . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي ، قال : أخبرنا الحسين بن واقد ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : من قال لا إله إلا الله ، فليقل على إثرها : الحمد لله رب العالمين ، فذلك قوله : فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ » .

حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال : حدثنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، قال : «إذا قال أحدكم : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، فليقل : الحمد لله ربّ العالمين ، ثم قال : فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ .

حدثني محمد بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جُبير أنه كان يستجب إذا قال : لا إله إلا الله ، يتبعها الحمد لله ، ثم قرأ هذه الاَية : هُوَ الحَيّ لا إلَهَ إلاّ هُوَ فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ .

حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن عامر ، عن سعيد بن جبير ، قال : إذ قال أحدكم لا إله إلا الله وحده ، فليقل بأثرها : الحمد لله رب العالمين ، ثم قرأ فادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ الحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العَالَمِينَ } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ قَرَارٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡۖ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (64)

ثم بين تعالى نعمته في أن جعل { الأرض قراراً } ومهاداً للعباد ، { والسماء بناء } وسقفاً .

وقرأ الناس : «صُوركم » بضم الصاد . وقرأ أبو رزين : «صِوركم » بكسر الصاد{[10017]} . وقرأت فرقة : «صوركم » بكسر الواو على نحو بسرة وبسر .

وقوله تعالى : { من الطيبات } يريد من المستلذات طعماً ولباساً ومكاسب وغير ذلك ، ومتى جاء ذكر { الطيبات } بقرينة { رزقكم } ونحو فهو المستلذ ، ومتى جاء بقرينة تحليل أو تحريم كما قال تعالى : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق }{[10018]} وكما قال : { ويحل لهم الطيبات }{[10019]} والطيبات في مثل هذا : الحلال ، وعلى هذا النظر يخرج مذهب مالك رحمه الله في الطيبات والخبائث ، وقول الشافعي رحمه الله : إن الطيبات هي المستلذات ، والخبائث ، هي المستقذرات ضعيف ينكسر بمستلذات محرمة ومستقذرات محللة لا رد له في صدرها ، وأما حيث وقعت الطيبات مع الرزق فإنما هي تعديد نعمة فيما يستحسنه البشر ، لا سيما هذه الآية التي هي مخاطبة لكفار ، فإنما عددت عليه النعمة التي يعتقدونها نعمة ، وباقي الآية بين .


[10017]:وهذا فرار من الضمة قبل الواو، لأنها ثقيلة، قال بعض اللغويين: إن جمع (فُعْلة) على فعل شاذٌ، وهذا كما قالوا شاذاً (قِوى) لكسر القاف في جمع (قوة) بضم القاف- لكن الجوهري قال: والصِور- بكسر الصاد- لغة في الصور جمع صورة، وأنشد على هذه اللغة هذا البيت الذي يصف الجواري: أشبهن من بقر الخلصاء أعينها وهن أحسن من صيرانها صِورا والصِيران: القطيع من البقر. (راجع الصحاح للجوهري) وغيره.
[10018]:من الآية (32) من سورة (الأعراف).
[10019]:من الآية (157) من سورة (الأعراف).