ثم مدحهم - سبحانه - للمرة الثالثة فقال : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } .
والسائل : هو من يسأل غيره العون والمساعدة . والمحروم : هو المتعفف عن السؤال مع أنه لا مال له لحرمان أصابه ، بسبب مصيبة نزلت به ، أو فقر كان فيه . . . أو ما يشبه ذلك .
قال ابن جرير بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى المراد من المحروم هنا . والصواب من القول فى ذلك عندى : أنه الذى قد حرم الرزق واحتاج ، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره فصار ممن حرمه الله .
وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة . وقد يكون بأنه لا سهم له فى الغنيمة لغيبته عن الواقعة .
أى : أنهم بجانب قيامهم الليل طاعة لله - تعالى - واستغفارا لذنوبهم . . . يوجبون على أنفسهم فى أموالهم حقا للسائل والمحروم ، تقربا إلى الله - سبحانه - بمقتضى ما جبلوا عليه من كرم وسخاء .
فالمراد بالحق هنا : ما يقدمونه من أموال للمحتاجين على سبيل التطوع وليس المراد به الزكاة المفروضة ، لأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت فى السنة الثانية من الهجرة .
قال الآلوسى : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ } هو غير الزكاة كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما .
وقال منذر بن سعيد : هذا الحق هو الزكاة المفروضة ، وتعقب بأن السورة مكية . وفرض الزكاة بالمدينة . وقيل : أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذى كان بالمدينة القدر المعروف اليوم . . . . والجمهور على الأول .
والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة يرى أن هؤلاء المتقين ، قد مدحهم الله - تعالى - هذا المدح العظيم ، لأنهم عرفوا حق الله عليهم فأدوه بإحسان وإخلاص ، وعرفوا حق الناس عليهم فقدموه بكرم وسخاء .
وقوله : وفِي أمْوَالِهِمْ حَقّ للسّائِلِ والمَحْرُومِ يقول تعالى ذكره : وفي أموال هؤلاء المحسنين الذين وصف صفتهم حقّ لسائلهم المحتاج إلى ما في أيديهم والمحروم . وبنحو الذي قلنا في معنى السائل ، قال أهل التأويل ، وهم في معنى المحروم مختلفون ، فمن قائل : هو المحارَف الذي ليس له في الإسلام سهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قيس بن كركم ، عن ابن عباس سألته عن السائل والمحروم ، قال : السائل : الذي يسأل الناس ، والمحروم : الذي ليس له في الإسلام سهم وهو محارَف .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه عن ابن عباس ، قوله : وفِي أمْوَالهمْ حَقّ للسّائِلِ والمَحْرُومِ قال : المحروم : المحارف .
حدثنا سهل بن موسى الرازي ، قال : حدثنا وكيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن قيس بن كركم ، عن ابن عباس ، قال : السائل : السائل . والمحروم : المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم .
حدثنا سهل بن موسى ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قيس بن كركم ، عن ابن عباس ، قال : المحروم : المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم .
حدثنا حُمَيد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا شعبة عن أبي إسحاق ، عن قيس بن كركم ، عن ابن عباس في هذه الاَية للسّائِلِ والمَحْرُومِ قال : السائل : الذي يسأل ، والمحروم : المحارَف .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت أبا إسحاق يحدّث عن قيس بن كركم ، عن ابن عباس ، بنحوه .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول : الله تبارك وتعالى : المحروم ، قال : المحارف .
وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالمَحْرُومِ : هو الرجل المحارف الذي لا يكون له مال إلا ذهب ، قضى الله له ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن قيس بن كركم ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : للسائل وَالمَحْرُومِ قال : السائل : الذي يسأل ، والمحروم : المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم .
حدثني محمد بن عمرو المقدمي ، قال : حدثنا قريش بن أنس ، عن سليمان ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : المحروم : المحارَف .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال في المحروم : هو المحارف الذي ليس له أحد يعطف عليه ، أو يعطيه شيئا .
حدثني ابن المثنى ، قال : ثني وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن عاصم ، عن أبي قِلابة ، قال : جاء سيل باليمامة ، فذهب بمال رجل ، فقال رجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : هذا المحروم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا أيوب ، عن نافع ، قال : المحروم : المحارف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، قال : المحروم : المحارف .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حجاج ، عن الوليد بن العيزار عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس أنه قال : المحروم : هو المحارف .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، عن أبي بشر ، قال : سألت سعيد بن جُبَير ، عن المحروم ، فلم يقل فيه شيئا ، فقال عطاء : هو المحدود المحارف .
ومن قائل : هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشجّ ، عن سعيد بن المسيب ، أنه سُئل عن المحروم فقال : المحارف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وفي أمْوَالِهمْ حَقّ للسَائل وَالمَحْرُومِ هذان فقيرا أهل الإسلام ، سائل يسأل في كفّه ، وفقير متعفّف ، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري للسّائلِ وَالمَحْرُومِ قال : السائل : الذي يسأل ، والمحروم : المتعفف الذي لا يسأل .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : قال معمر ، وحدثني الزهريّ ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «لَيْسَ المِسْكينُ الّذِي تَرُدّهُ التّمْرَةُ والتّمْرَتانِ والأكْلَةُ والأكْلَتانِ » ، قالوا فمن المسكين يا رسول الله ؟ قال : «الّذِي لا يَجِدُ غِنًى ، وَلا يُعْلَمُ بِحاجَتِهِ فَيُتَصَدّقُ عَلَيْهِ فَذلكَ المَحْرُومُ » .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : للسّائِل والمَحْرُومِ قال : السائل الذي يسأل بكفه ، والمحروم : المتعفف ، ولكليهما عليك حقّ يا ابن آدم .
وقائل : هو الذي لا سهم له في الغنيمة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية ، فغنموا ، فجاء قوم يشهدون الغنيمة ، فنزلت هذه الاَية : وفِي أمْوَالِهِمْ حَقّ للسّائِلِ وَالمَحْرُومِ .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم الجدلي ، عن الحسن بن محمد ، قال : بعثت سرية فغنموا ، ثم جاء قوم من بعدهم ، قال : فنزلت للسّائِل وَالمَحْرُومِ .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن إبراهيم أن أُناسا قدموا على عليّ رضي الله عنه الكوفة بعد وقعة الجمل ، فقال : اقسموا لهم ، قال : هذا المحروم .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن الحسن بن محمد أن قوما في زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم أصابوا غنيمة ، فجاء قوم بعد ، فنزلت وفِي أمْوَالِهِمْ حَقّ للسّائِلِ وَالمَحْرُومِ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عمرو ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : المحروم : الذي لا فيء له في الإسلام ، وهو محارف من الناس .
قال : ثنا جرير ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قوله : للّسائِلِ وَالمَحْرُومِ قال : المحروم : الذي لا يجري عليه شيء من الفيء ، وهو محارف من الناس .
وقائل : هو الذي لا ينمى له مال . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن حصين ، قال : سألت عكرِمة ، عن السائل والمحروم ؟ قال : السائل : الذي يسألك ، والمحروم : الذي لا ينمى له مال .
وقائل : هو الذي قد ذهب ثمره وزرعه . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وفِي أمْوَالِهِمْ حَقّ للسّائِلِ والمَحْرُومِ قال : المحروم : المصاب ثمره وزرعه ، وقرأ أفرأيْتُمْ ما تَحْرُثُون أأنْتُم تَزْرَعُونَهُ حتى بلغ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ وقال أصحاب الجنة : إنّا لَضَالّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في قوله : وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقّ للسّائِلِ وَالمَحْرُومِ قال : ليس ذلك بالزكاة ، ولكن ذلك مما ينفقون من أموالهم بعد إخراج الزكاة ، والمحروم : الذي يُصاب زرعه أو ثمره أو نسل ماشيته ، فيكون له حقّ على من لم يصبه ذلك من المسلمين ، كما قال لأصحاب الجنة حين أهلك جنتهم قالُوا بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ وقال أيضا : لَوْ نَشاءُ لجَعَلْناهُ حُطاما فَظَلْتُمْ تَفَكّهُونَ إنّا لَمَغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : قال الشعبيّ : أعياني أن أعلم ما المحروم .
والصواب من القول في ذلك عندي أنه الذي قد حُرم الرزق واحتاج ، وقد يكون ذلك بذهاب ماله وثمره ، فصار ممن حرمه الله ذلك ، وقد يكون بسبب تعففه وتركه المسألة ، ويكون بأنه لا سهم له في الغنيمة لغيبته عن الوقعة ، فلا قول في ذلك أولى بالصواب من أن تعمّ ، كما قال جلّ ثناؤه : وفي أمْوَالِهِمْ حَقّ للسّائِلِ وَالمَحْرُومِ .
وقوله تعالى : { وفي أموالهم حق } الصحيح أنها محكمة ، وأن هذا الحق هو على وجه الندب ، لا على وجه الفرض ، و : { معلوم }{[10592]} يراد به متعارف ، وكذلك قيام الليل الذي مدح به ليس من الفرائض ، وأكثر ما تقع الفريضة بفعل المندوبات ، وقال منذر بن سعيد : هي الزكاة المفروضة وهذا ضعيف ، لأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة . وقال قوم من المتأولين : كان هذا ثم نسخ بالزكاة ، وهذا غير قوي وما شرع الله عز وجل بمكة قبل الهجرة شيئاً من أخذ الأموال .
واختلف الناس في { المحروم } اختلافاً ، هو عندي تخليط من المتأخرين ، إذ المعنى واحد ، وإنما عبرعلماء السلف في ذلك بعبارات على جهة المثالات فجعلها المتأخرون أقوالاً وحصرها مكي ثمانية .
و : { المحروم } هو الذي تبعد عنه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله حرمان وفاقة ، وهو مع ذلك لا يسأل ، فهذا هو الذي له حق في أموال الأغنياء كما للسائل حق ، قال الشعبي : أعياني أن أعلم ما { المحروم } ؟ وقال ابن عباس : { المحروم } : المعارف الذي ليس له في الإسلام سهم مال ، فهو ذو الحرفة المحدود . وقال أبو قلابة : جاء سيل باليمامة فذهب بمال رجل ، فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هذا { المحروم } . وقال زيد بن أسلم : هو الذي أجيحت ثمرته من المحرومين .
وقال غيره : هو الذي ماتت ماشيته ، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : هو الكلب .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله :
وقد يكون الكلب محروما في بعض الأوقات والحالات ، ألا ترى إلى الذي كان يأكل الثرى من العطش . . . الحديث{[10593]} ؛ إلى غير هذا من الأقوال التي إنما ذكرت مثالا ، كأنه يقول : الذي أصيبت ثمرته من المحرومين .
والمعنى الجامع لهذه الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه ، وإلا فالذي أجيحت ثمرته وله مال كثير غيرها فليس في هذه الآية بإجماع ، وبعد هذا مقدر من الكلام تقديره : فكونوا مثلهم أيها الناس وعلى طريقتهم فإن النظر المؤدي إلى ذلك متوجه ، ف { في الأرض آيات } لمن اعتبر وأيقن .