ثم أمر الله - تعالى - رسوله - صلى الله عليه وسلم - بمجاهدة الكفار والمنافقين بكل وسيلة ، لأنهم جميعا لا يريدون الانتهاء عن المكر السئ بالدعوة الإِسلامية فقال - تعالى - : { يا أيها النبي . . . } .
قوله - سبحانه - { جَاهِدِ } من المجاهد ، بمعنى بذلك الجهد في دفع ما لا يرضى ، سواء أكان ذلك بالقتال أم بغيره .
وقوله : { واغلظ عَلَيْهِمْ } من الغلظة التي هي نقيض الرقة والرأفة . يقال أغلظ فلان في الأمر إذا اشتد فيه ولم يترفق .
ونحن عندما نقرأ السيرة النبوية . نجد أنه - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته إلى المدينة ، ظل فترة طويلة يلاين المنافقين ، ويغض الطرف عن رذائلهم ، ويصفح عن مسيئهم . . إلا أن هذه المعاملة الحسنة لهم زادتهم رجسا إلى رجسهم . . لذا جاءت هذه السورة - وهى من أواخر ما نزل من القرآن لتقول للنبى - صلى الله عليه وسلم - لقد آن الأوان لإِحلال الشدة والحزم ، محل اللين والرفق ، فإن للشدة مواضعها وللين مواضعه . .
والمعنى : عليك - أيها النبى الكريم - أن تجاهد الكفار بالسيف إذا كان لا يصحلهم سواه ، وأن تجاهد المنافقين - الين يظهرون الإِسلام ويخفون الكفر - بما تراه مناسبا لردهم وزجرهم وإرهابهم ، سواء أكان ذلك باليد أم باللسان أم بغيرهما ، حتى تأمن شرهم .
قال الإِمام ابن كثير ، أمر الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - بجهاد الكفار والمنافقين ، كما أمره أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين . . - وقد تقدم عن أمير المؤمنين على بن أبى طالب أنه قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف . سيف للمشركين { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ . . . } وسيف للكفار أهل الكتاب { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب . . } وسيف للمنافقين { جَاهِدِ الكفار والمنافقين } وسيف للبغاة { فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } وهذا يقتضى أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ، وهو اختيار ابن جرير .
وقال ابن مسعود في قوله : { جَاهِدِ الكفار والمنافقين } قال بيده ، فإن لم يستطع فليشكر في وجهه - أى فليلق المنافق بوجه عابس لا طلاقة فيه ولا انبساط .
وقال ابن عباس : أمره الله - تعالى - بجهاد المنافقين باللسان وأذهب الرفق عنهم .
وقد يقال أنه لا منافاة بين هذه الأقوال ، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا ، وتارة بهذا على حسب الأحوال . .
والضمير المجرور في قوله : { واغلظ عَلَيْهِمْ } يعود على الفريقين : الكفار والمنافقين أى : جاهدهم بكل ما تستطيع مجاهدتهم به ، مما يقتضيه الحال ، واشدد عليهم في هذه المجاهدة بحيث لا تدع مجالا معهم للترفق واللين ، فإنهم ليسوا أهلا لذلك ، بعد أن عموا وصموا عن النصحية ، وبعد أن لجوا في طغيانهم .
وقوله : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } تذييل قصد به بيان سوء مصيرهم في الآخرة بعد بيان ما يجب على المؤمنين نحوهم في الدنيا .
أى : عليك - أيها النبى - أن تجاهدهم وأن تغلظ عليهم في الدنيا ، أما في الآخرة فإن جهنم هي دارهم وقرارهم .
والمخصوص بالذم محذوف والتقدير : وبئس المصير مصيرهم ، فانه لا مصير أسوأ من الخلود في جهنم .
ومن هذه الآية الكريمة نرى أن على المؤمنين - في كل زمان ومكان - أن يجاهدوا أعداءهم من الكفار والمنافقين باللاسح الذي يرونه كفيلا بأن يجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَأَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : يا أيها النبيّ جاهد الكفار بالسيف والسلاح والمنافقين .
واختلف أهل التأويل في صفة الجهاد الذي أمر الله نبيه به في المنافقين ، فقال بعضهم : أمره بجاهدهم باليد واللسان ، وبكل ما أطاق جهادهم به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حميد بن عبد الرحمن ويحيى بن آدم ، عن حسن بن صالح ، عن عليّ بن الأقمر ، عن عمرو بن جندب ، عن ابن مسعود ، في قوله تعالى : جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال : بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه .
وقال آخرون : بل أمره بجهاهدهم باللسان . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله تعالى : يا أيّها النّبي جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان ، وأذهب الرفق عنهم .
حدثنا القاسم ، قال : ثني الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال : الكفار بالقتال ، والمنافقين : أن تغلظ عليهم بالكلام .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يقول : جاهد الكفار بالسيف ، وأغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم .
وقال آخرون : بل أمره بإقامة الحدود عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ قال : جاهد الكفار بالسيف ، والمنافقين بالحدود ، أقم عليهم حدود الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يا أيّها النّبِي جاهِدِ الكُفّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف ، ويغلظ على المنافقين في الحدود .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب ما قال ابن مسعود ، من أن الله أمر نبيه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين ، بنحو الذي أمره به من جهاد المشركين .
فإن قال قائل : فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظهر أصحابه مع علمه بهم ؟ قيل : إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهر منهم كلمة الكفر ، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك . وأما من إذا اطلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأخذ بها ، أنكرها ورجع عنها وقال : إني مسلم ، فإن حكم الله في كل من أظهر الإسلام بلسانه ، أن يحقن بذلك له دمه وماله وإن كان معتقدا غير ذلك ، وتوكل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم ، ولم يجعل للخلق البحث عن السرائر فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مع علمه بهم وإطلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صدورهم ، كان يقرّهم بين أظهر الصحابة ، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبه الحرب على الشرك بالله لأن أحدهم كان إذا اطلع عليه أنه قد قال قولاً كفر فيه بالله ثم أخذ به أنكره ، وأظهر الإسلام بلسانه ، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه ، دون ما سلف من قول كان نطق به قبل ذلك ، ودون اعتقاد ضميره الذي لم يبح الله لأحد الأخذ به في الحكم وتولّى الأخذ به هو دون خلقه .
وقوله : وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يقول تعالى ذكره : واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرهاب . وقوله : ومَأْواهُمْ جَهَنّمُ يقول : ومساكنهم جهنم وهي مثواهم ومأواهم . وَبِئْسَ المَصِيرُ يقول : وبئس المكان الذي يصار إليه جهنم .
قوله { جاهد } مأخوذ من بلوغ الجهد وهي مقصود بها المكافحة والمخالفة ، وتتنوع بحسب المجاهد فجهاد الكافر المعلن بالسيف ، وجهاد المنافق المتستر باللسان والتعنيف والاكفهرار في وجهه ، ونحو ذلك ، ألا ترى أن من ألفاظ الشرع قوله صلى الله عليه وسلم «والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله »{[5784]} ، فجهاد النفس إنما هو مصابرتها باتباع الحق وترك الشهوات ، فهذا الذي يليق بمعنى هذه الآية لكنا نجلب قول المفسرين نصاً لتكون معرضة للنظر ، قال الزجّاج : وهو متعلق في ذلك بألفاظ ابن مسعود : أمر في هذه الآية بجهاد الكفار والمنافقين يالسيف ، وأبيح له فيها قتل المنافقين ، قال ابن مسعود : إن قدر وإلا فباللسان وإلا فبالقلب والاكفهرار في الوجه .
قال القاضي أبو محمد : والقتل لا يكون إلا مع التجليح{[5785]} ومن جلح خرج عن رتبة النفاق ، وقال ابن عباس : المعنى «جاهد المنافقين » باللسان ، وقال الحسن بن أبي الحسن : المعنى جاهد المنافقين بإقامة الحدود عليهم ، قال : وأكثر ما كانت الحدود يومئذ تصيب المنافقين .
قال القاضي أبو محمد : ووجه ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين بالمدينة أنهم لم يكونوا مجلحين بل كان كل مغموص عليه إذا وقف ادعى الإسلام ، فكان في تركهم إبقاء وحياطة للإسلام ومخافة أن تنفر العرب إذا سمعت أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل من يظهر الإسلام ، وقد أوجبت هذا المعنى في صدر سورة البقرة ، ومذهب الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم ويسترهم ، وأما قوله تعالى : { واغلظ عليهم } فلفظة عامة تتصرف الأفعال والأقوال واللحظات ، ومنه قوله تعالى : { ولو كنت فظاً غليظ القلب }{[5786]} ومنه قول النسوة لعمر بن الخطاب : أنت أفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم{[5787]} ومعنى الغلظ خشن الجانب فهي ضد قوله تعالى : { واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين }{[5788]} ثم جرت الآية المؤمنين عليهم في عقب الأمر بإخباره أنهم في جهنم{[5789]} ، والمعنى هم أهل لجميع ما أمرت أن تفعل بهم ، و «المأوى » حيث يأوي الإنسان ويستقر .