التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ} (163)

وبعد أن حذر - سبحانه - من كتمان الحق ، عقب ذلك ببيان ما يدل على وحدانيته ، وعلى أنه هو المستحق للعبادة والخضوع فقال - تعالى - :

{ وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن . . . }

قوله : { وإلهكم إله وَاحِدٌ } معطوف على قوله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا } عطف الققصة على القصة ، والجامع - كما قال الآلوسي - أن الأولى - وهي قوله : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ } مسوقة لإِثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وجملة { وإلهكم إله وَاحِدٌ } لإثبات وحدانية الله - تعالى - .

والإِله في كلام العرب هو المعبود مطلقاً ولذلك تعددت الآله عندهم . والمراد به في الآية الكريمة المعبود بحق بدليل الإِخبار عنه بأنه واحد .

والمعنى : وإلهكم الذي يستحق العبادة والخضوع إله واحد فرد صمد ، فمن عبد شيئاً دونه ، أو عبد شيئاً معه ، فعبادته باطلة فاسدة ، لأن العبادة الصحيحة هي ما يتجه بها العابد إلى المعبود بحق الذي قامت البراهين الساطعة على وحدانيته وهو الله رب العالمين .

قال بعضهم : " والإِخبار عن إلهكم بإله تكرير ليجري عليه الوصف بواحد ، والمقصود وإلهكم واحد لكنه وسط إله بين المبتدأ والخبر لتقرير معنى الألوهية في المخبر عنه ، كما تقول : عالم المدينة عالم فائق ، وليجيئ ما كان أصله خيراً مجيئ النعت فيفيد أنه وصف ثابت للموصوف لأنه صار نعتاً ، إذ أصل النعت أن يكون وصفاً ثابتاً ، وأصل الخبر أن يكون وصفاً حادثاً ، وهذا استعمال متبع في فصيح الكلام أن يعاد الاسم أو الفعل بعد ذكره ليبني عليه وصف أو متعلق كقوله : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } وجملة { إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } مقررة لما تضمنته الجملة السابقة من أن الله واحد لا شريك له ، ونافية عن الله - تعالى - الشريك صراحه ، ومثبته له مع ذلك الإِلهية الحقة ، ومزيحة لما عسى أن يتوهم من أن في الوجود إلهاً سوى الله - تعالى - لكنه لا يستحق العبادة .

ومعناها : إن الله إله ، وليس شيء مما سواه بإله .

وهذه الجملة الكريمة خبر ثاني للمبتدأ وهو ( إلهكم ) أو صفة أخرى للخبر وه ( إله ) وخبر ( لا ) محذوف أي لا إله موجود إلا هو ، والضمير ( هو ) في موضع رفع بدل من موضع لامع اسمها .

وقوله : { الرحمن الرحيم } خبر متبدأ محذوف ، وقيل غير ذلك من وجوه الإِعراب .

والمعنى : وإلهكم الذي يستحق العبادة إله واحد ، لا إله مستحق لها إلا هو ، هو الرحمن الرحيم .

أي : المنعم بجلائل النعم ودقائقها ، وهو مصدر الرحمة ، ودائم الإِحسان .

وأتى - سبحانه - بهذين اللفظين في ختام الآية ، لأن ذكر الإِلهية والوحدانية يحضر في ذهن السامع معنى القهر والغلبة وسعة المقدرة وعزة السلطان ، وذلك مما يجعل القلب في هيبة وخشية ، فناسب أن يورد عقب ذلك ما يدل على أنه مع هذه العظمة والسلطان ، مصدر الإِحسان ومولى النعم ، فقال : { الرحمن الرحيم } وهذه طريقة القرآن في الترويح على القلوب بالتبشير بعد ما يثير الخشية ، حتى لا يعتريها اليأس أو القنوط .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلرَّحۡمَٰنُ ٱلرَّحِيمُ} (163)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلََهُكُمْ إِلََهٌ وَاحِدٌ لاّ إِلََهَ إِلاّ هُوَ الرّحْمََنُ الرّحِيمُ }

قد بينا فيما مضى معنى الألوهية وأنها اعتباد الخلق . فمعنى قوله : وإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ لا إلهَ إلاّ هُوَ الرّحْمَنُ الرّحِيمِ والذي يستحقّ عليكم أيها الناس الطاعة له ، ويستوجب منكم العبادة معبود واحد وربّ واحد ، فلا تعبدوا غيره ولا تشركوا معه سواه ، فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه هو خلق من خلق إلهكم مثلكم ، وإلهكم إله واحد ، لا مثل له ولا نظير .

واختلف في معنى وحدانيته تعالى ذكره ، فقال بعضهم : معنى وحدانية الله معنى نفي الأشباه والأمثال عنه كما يقال : فلان واحد الناس وهو واحد قومه ، يعني بذلك أنه ليس له في الناس مثل ، ولا له في قومه شبيه ولا نظير فكذلك معنى قول : الله واحد ، يعني به الله لا مثل له ولا نظير .

فزعموا أن الذي دلهم على صحة تأويلهم ذلك أن قول القائل واحد يفهم لمعان أربعة ، أحدها : أن يكون واحدا من جنس كالإنسان الواحد من الإنس ، والاَخر : أن يكون غير متفرّق كالجزء الذي لا ينقسم ، والثالث : أن يكون معنيا به المثل والاتفاق كقول القائل : هذان الشيئان واحد ، يراد بذلك أنهما متشابهان حتى صارا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد ، والرابع : أن يكون مرادا به نفي النظير عنه والشبيه . قالوا : فلما كانت المعاني الثلاثة من معاني الواحد منتفية عنه صحّ المعنى الرابع الذي وصفناه .

وقال آخرون : معنى وحدانيته تعالى ذكره معنى انفراده من الأشياء ، وانفراد الأشياء منه . قالوا : وإنما كان منفردا وحده ، لأنه غير داخل في شيء ولا داخل فيه شيء . قالوا : ولا صحة لقول القائل واحد من جميع الأشياء إلا ذلك .

وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعة التي قالها الاَخرون .

وأما قوله : لاَ إلهَ إلاّ هُوَ فإنه خبر منه تعالى ذكره أنه لا ربّ للعالمين غيره ، ولا يستوجب على العباد العبادة سواه ، وأن كل ما سواه فهم خلقه ، والواجب على جميعهم طاعته ، والانقياد لأمره ، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والاَلهة وهجر الأوثان والأصنام ، لأن جميع ذلك خلقه وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة ، ولا تنبغي الألوهة إلا له ، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه دون ما يعبدونه من الأوثان ، ويشركون معه من الأشراك ، وما يصيرون إليه من نعمة في الاَخرة فمنه ، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضرّ ولا ينفع في عاجل ولا في آجل ، ولا في دنيا ، ولا في آخرة .

وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم ، ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم ، والإنابة من شركهم .

ثم عرّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم ، فقال تعالى ذكره : أيها المشركون إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر من أن إلهكم إله واحد دون ما تدّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان ، فتدبروا حججي وفكروا فيها ، فإن من حججي : خلق السمَوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها ، وما بثثت فيها من كل دابة ، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض . فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والاَلهة والأنداد وسائر ما تشركون به إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم ، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر ، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي ، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري . فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده في هذه الآية وفي التي بعدها بأوجز كلام وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه .