الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِذۡ أَوۡحَيۡنَآ إِلَىٰٓ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰٓ} (38)

وقوله سبحانه : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى إذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى } قيل : هو وَحْي إلهام ، وقِيلَ : بملك ، وقِيلَ : برؤْيَا رَأَتْهَا ، وكان مِنْ قصة موسى عليه السلام فيما رُوي أن فرعون ذُكرَ له أَنَّ خرابَ مُلْكِه يكونُ عَلَى يد غُلاَمٍ من بَنِي إسرائيل ؛ فأَمر بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ يولَدُ لبني إسرائيل ، ثم إنه رَأَى مع أَهْل مملكته : أَنَّ فناء بني إسرائيل يعودُ على القِبْطِ بالضَرَرِ إذْ هم كانوا عَمَلَةَ الأَرْضِ ، والصناع ، ونحو هذا فعزم على أَنْ يقتُلَ الوِلْدَانَ سنةً ، ويَسْتَحْيِيَهُم سنةً ، فولد هارون عليه السلام في سَنَةِ الاِسْتِحْيَاءِ ، ثم ولد موسى عليه السلام في العام الرابع سَنَةَ القَتْلِ ، فخافت عليه أُمُّه فأوحى اللَّه إلَيْها : { أنْ اقذفيه فِي التابوت } [ طه : 39 ] .

فأخذَت تابُوتاً فقذفَتْ فيه موسى راقِداً في فِرَاشٍ ، ثم قذفتْهُ في يَمِّ النيل ، وكان فرعون جَالِساً في مَوْضِع يُشْرِفُ منه على النِّيلِ إذْ رَأَى التَّابُوتَ فأمَر به ، فسِيقَ إليه ، وامرأته معه ، ففُتِحَ فرأَوْهُ فَرَحِمتْهُ امرأته وطلبتْهُ لتتَّخذَهُ ابنا ، فأباح لها ذلك ، ثم إنَّها عرضَتْهُ للرِّضَاعِ ، فلم يقبلِ امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة ويُطافُ به يُعْرَضُ للمَرَاضِعِ فكلما عُرِضَتْ عليه امرأةٌ أَباهَا .وكانت أمه قالَتْ لأُخْتِه : { قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ } [ القصص : 11 ] وفهمت أمره ، فقالت لهم : أنا ( أدلُّكم على أهْل بيت يَكْفلُونه لَكُمْ ، وهم له نَاصِحُون ) فتعلَّقُوا بِهَا ، وقالوا : أنْتِ تَعْرِفينَ هذا الصبيَّ ، فأنْكَرتْ ، وقَالَتْ : لاَ ، غَيْرَ أَني أَعْلم مِنْ أهْل البيْتِ الحِرْصَ على التقرُّبِ إلى المملكةِ ، والجدّ في خِدْمتها ، ورِضَاهَا ، فتَرَكُوها وسَأَلُوها الدَّلاَلة ، فجاءت بِأُمِّ مُوسَى ، فلما قَرَّبَتْهُ ، شَرِبَ ثَدْيَهَا ، فسُرّت بذلك آسِيَةُ امرأة فِرْعون رضي اللَّه عنها وقالت لها : كُونِي مَعِي في القَصْرِ ، فقالت لها : ما كُنْتُ لأَدَعَ بيتي وَوَلَدِي ، ولكنه يِكُون عِنْدِي ، فقالت : نعم ، فأَحسنت إلى أَهْل ذلك البيت غَايَةَ الإحْسَانِ ، واعتزَّ بنو إسْرَائِيل بهذا الرِّضاعِ ، والسبب من المَمْلَكَةِ وأقام موسى عليه السلام حتى كَمَلَ رضاعُه ، فأرْسَلت إليها آسية : أنْ جِيئيِني بولدي لِيَوْمِ كذا ، وأمَرتْ خَدَمَها ، ومَنْ مَعَها أنْ يلقينه بالتحَفِ ، والهَدَايا ، واللّباس فوصل إليها على ذلك ، وهو بخيرِ حَالٍ وأجْمَل شباب ، فسُرّت بِهِ ، ودخَلتْ به عَلَى فِرْعَوْن ليراه ويهبه فرآه وأعْجَبه ، وقرَّبَهُ فأخذ موسى عليه السلام بلِحْيَةِ فرعون ، وجَذَبهَا ، فاسْتَشَاطَ فرعونُ ، وقال : هذا عَدُوٌّ لي ، وأمَر بذبْحِهِ ، فَنَاشَدَتْهُ فيه امرأته ، وقالَتْ : إنه لاَ يَعْقِلُ ، فقال فِرْعَونُ : بل يَعْقِلُ ، فاتَّفَقَا عَلَى تَجْرِيبه بالجمْرَةِ والياقُوتِ حَسَبَ ما تقدَّمَ ، فنجاه اللَّهُ من فرعون ورَجَعَ إلى أُمِّه ، فَشَبَّ عندها ، فاعتز به إسْرَائِيل إلى أن تَرَعْرَعَ ، وكان فَتًى جَلداً فَاضِلاً كَامِلاً ، فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرِّضاع ، وكان يحميهم ، ويكون ضِلعَهُ مَعهم ، وهو يَعْلَمُ مِنْ نفسه أنه مِنْهُم ، ومِنْ صَمِيمِهم ، فكانت بصيرته في حمايتهم أكِيدة ، وكان يَعْرِفُ ذلك أَعيانُ بني إسْرَائِيل ، ثم وقعت له قِصَّةُ القِبْطِيِّ المتقاتل مع الإسرائيلي على ما سيأتي إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالى ، وعدد اللَه سبحانه على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القِصَّة : مِنْ لُطْفه سُبْحَانه به في كُلِّ فَصْل ، وتخليصه من قِصَّةٍ إلَى أخرى ، وهذه الفُتُون التي فتنه بها ، أيْ : اختبره بها ، وخلَّصَهُ حتى صلح لِلنّبوءةِ ، وسلم لها .

وقوله { مَا يوحى } [ طه : 38 ] إبهامٌ يتضمن عِظَمَ الأَمْر وَجَلالَتِه وهذا كَقَوْلِهِ تعالى : { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } [ النجم : 16 ] { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى } [ النجم : 10 ] . وهو كثيرٌ في القرآن ، والكلام الفصيح .