الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

وقوله سبحانه : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى إذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ مَا يوحى } قيل : هو وَحْي إلهام ، وقِيلَ : بملك ، وقِيلَ : برؤْيَا رَأَتْهَا ، وكان مِنْ قصة موسى عليه السلام فيما رُوي أن فرعون ذُكرَ له أَنَّ خرابَ مُلْكِه يكونُ عَلَى يد غُلاَمٍ من بَنِي إسرائيل ؛ فأَمر بِقَتْلِ كُلِّ مَوْلُودٍ يولَدُ لبني إسرائيل ، ثم إنه رَأَى مع أَهْل مملكته : أَنَّ فناء بني إسرائيل يعودُ على القِبْطِ بالضَرَرِ إذْ هم كانوا عَمَلَةَ الأَرْضِ ، والصناع ، ونحو هذا فعزم على أَنْ يقتُلَ الوِلْدَانَ سنةً ، ويَسْتَحْيِيَهُم سنةً ، فولد هارون عليه السلام في سَنَةِ الاِسْتِحْيَاءِ ، ثم ولد موسى عليه السلام في العام الرابع سَنَةَ القَتْلِ ، فخافت عليه أُمُّه فأوحى اللَّه إلَيْها : { أنْ اقذفيه فِي التابوت } [ طه : 39 ] .

فأخذَت تابُوتاً فقذفَتْ فيه موسى راقِداً في فِرَاشٍ ، ثم قذفتْهُ في يَمِّ النيل ، وكان فرعون جَالِساً في مَوْضِع يُشْرِفُ منه على النِّيلِ إذْ رَأَى التَّابُوتَ فأمَر به ، فسِيقَ إليه ، وامرأته معه ، ففُتِحَ فرأَوْهُ فَرَحِمتْهُ امرأته وطلبتْهُ لتتَّخذَهُ ابنا ، فأباح لها ذلك ، ثم إنَّها عرضَتْهُ للرِّضَاعِ ، فلم يقبلِ امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة ويُطافُ به يُعْرَضُ للمَرَاضِعِ فكلما عُرِضَتْ عليه امرأةٌ أَباهَا .وكانت أمه قالَتْ لأُخْتِه : { قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ } [ القصص : 11 ] وفهمت أمره ، فقالت لهم : أنا ( أدلُّكم على أهْل بيت يَكْفلُونه لَكُمْ ، وهم له نَاصِحُون ) فتعلَّقُوا بِهَا ، وقالوا : أنْتِ تَعْرِفينَ هذا الصبيَّ ، فأنْكَرتْ ، وقَالَتْ : لاَ ، غَيْرَ أَني أَعْلم مِنْ أهْل البيْتِ الحِرْصَ على التقرُّبِ إلى المملكةِ ، والجدّ في خِدْمتها ، ورِضَاهَا ، فتَرَكُوها وسَأَلُوها الدَّلاَلة ، فجاءت بِأُمِّ مُوسَى ، فلما قَرَّبَتْهُ ، شَرِبَ ثَدْيَهَا ، فسُرّت بذلك آسِيَةُ امرأة فِرْعون رضي اللَّه عنها وقالت لها : كُونِي مَعِي في القَصْرِ ، فقالت لها : ما كُنْتُ لأَدَعَ بيتي وَوَلَدِي ، ولكنه يِكُون عِنْدِي ، فقالت : نعم ، فأَحسنت إلى أَهْل ذلك البيت غَايَةَ الإحْسَانِ ، واعتزَّ بنو إسْرَائِيل بهذا الرِّضاعِ ، والسبب من المَمْلَكَةِ وأقام موسى عليه السلام حتى كَمَلَ رضاعُه ، فأرْسَلت إليها آسية : أنْ جِيئيِني بولدي لِيَوْمِ كذا ، وأمَرتْ خَدَمَها ، ومَنْ مَعَها أنْ يلقينه بالتحَفِ ، والهَدَايا ، واللّباس فوصل إليها على ذلك ، وهو بخيرِ حَالٍ وأجْمَل شباب ، فسُرّت بِهِ ، ودخَلتْ به عَلَى فِرْعَوْن ليراه ويهبه فرآه وأعْجَبه ، وقرَّبَهُ فأخذ موسى عليه السلام بلِحْيَةِ فرعون ، وجَذَبهَا ، فاسْتَشَاطَ فرعونُ ، وقال : هذا عَدُوٌّ لي ، وأمَر بذبْحِهِ ، فَنَاشَدَتْهُ فيه امرأته ، وقالَتْ : إنه لاَ يَعْقِلُ ، فقال فِرْعَونُ : بل يَعْقِلُ ، فاتَّفَقَا عَلَى تَجْرِيبه بالجمْرَةِ والياقُوتِ حَسَبَ ما تقدَّمَ ، فنجاه اللَّهُ من فرعون ورَجَعَ إلى أُمِّه ، فَشَبَّ عندها ، فاعتز به إسْرَائِيل إلى أن تَرَعْرَعَ ، وكان فَتًى جَلداً فَاضِلاً كَامِلاً ، فاعتزت به بنو إسرائيل بظاهر ذلك الرِّضاع ، وكان يحميهم ، ويكون ضِلعَهُ مَعهم ، وهو يَعْلَمُ مِنْ نفسه أنه مِنْهُم ، ومِنْ صَمِيمِهم ، فكانت بصيرته في حمايتهم أكِيدة ، وكان يَعْرِفُ ذلك أَعيانُ بني إسْرَائِيل ، ثم وقعت له قِصَّةُ القِبْطِيِّ المتقاتل مع الإسرائيلي على ما سيأتي إنْ شَاءَ اللَّه تَعَالى ، وعدد اللَه سبحانه على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القِصَّة : مِنْ لُطْفه سُبْحَانه به في كُلِّ فَصْل ، وتخليصه من قِصَّةٍ إلَى أخرى ، وهذه الفُتُون التي فتنه بها ، أيْ : اختبره بها ، وخلَّصَهُ حتى صلح لِلنّبوءةِ ، وسلم لها .

وقوله { مَا يوحى } [ طه : 38 ] إبهامٌ يتضمن عِظَمَ الأَمْر وَجَلالَتِه وهذا كَقَوْلِهِ تعالى : { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } [ النجم : 16 ] { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى } [ النجم : 10 ] . وهو كثيرٌ في القرآن ، والكلام الفصيح .

وقوله : { على قَدَرٍ } [ طه : 40 ] أيْ : لميقاتٍ محدُودٍ للنبوءة التي قد أرادها اللَّهُ تعالى .