فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{فَمَن ثَقُلَتۡ مَوَٰزِينُهُۥ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ} (102)

{ ثقلت موازينه } رجحت موزونات حسناته ؛ ومن ثقلت موازينه بالحسنات .

{ المفلحون } الرابحون الفائزون .

{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ { 101 ) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ { 102 ) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ { 103 ) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ { 104 ) أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ { 105 ) }

{ الصور } قرن [ بوق ] يأمر الله تعالى ملكا أن ينفخ فيه فيموت كل حي إلا الله سبحانه ، ثم يأمره الله أن ينفخ فيه أخرى فإذا الأموات يبعثون .

حال من أحوال القيامة وهول من أهوالها ، ذلك يوم النشور يوم يأمر الله تعالى الملك الموكل بالنفخ فينفخ في قرن من نور كما ورد فإذا الموتى يخرجون من الأجداث سراعا ، تشققت الأرض عنهم ، وجمع الله ما تحلل منهم ، وعادت الأرواح إلى الأجسام ، وأنشأهم كما خلقهم أول مرة { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } لا يفتخرون بالأنساب هناك مثلما كانوا يفتخرون بها في الدنيا ، ولا يتعارفون لعظم ما دهاهم فألهاهم ؛ بل لو رأى أحدهم أقرب الناس كانوا إليه في الدنيا لم يسأله عونا ، ولا قر به عينا : { يوم يفر المرء من أخيه . وأمه وأبيه . وصاحبته وبنيه . لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ){[2414]} وأورد المفسرون والمحدثون في هذا المقام آثارا ترقق القلوب{[2415]} فمن رجحت كفة حسناته فقد فاز وأفلح ونجح وربح ، وسعد سعادة لا يشقى بعدها أبدا ، ومن خرج من الدنيا ولا حسنة له ، أو عمل ولم يكن قد آمن فلا وزن له ، مصداق قوله تعالى : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا ){[2416]} { . . أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . . ){[2417]} فأولئك الذين ضيعوا أنفسهم وأشقوها . وغبنوها حظوظها من رحمة الله ، فلا مأوى لهؤلاء إلا دار العذاب مخلدين فيها { . . لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها . . ){[2418]} والنار تشوي وجوههم وتحرقها ، كما تحرق سائر الأعضاء ، ولهم مع السعير والحريق الحسي ، تحسير وغم نفسي ، حتى ليعلوهم العبوس والكشرة ، وتغشاهم الغبرة والقترة ؛ وما ظلمهم الله ولكن ظلموا أنفسهم ، ولهذا يحسرهم ويبكتهم : ألم يكن كتابي يقرأ عليكم ، وعهدي يبلغ إليكم ، فأبيتم إلا الجحود والنكران ؛ وأقمتم على الكفر والعصيان ؟ فاستوجبتم بذلك النكال والخسران ؟ ! فاللهم حبب إلينا القرآن ؛ وثبتنا على منهاج الفرقان ، وقنا سخطك وأجزل لنا العطاء والرضوان


[2414]:سورة عبس. الآيات: من 34 إلى 37.
[2415]:رووا أن عليا ـ زين العابدين ـ ابن الحسين رضي الله تعالى عنهما كان بكاء في خلواته وأنه فزع يوما إلى أرض خلاء وقف فيها يناجي ربه منيبا تائبا، شديد الإشفاق من ربه، شديد الإعظام لذنبه؛ وكان مما قال: ألا أيها المقصود في كل وجــهة *** شكوت إليك الضر فارحم شكايتي ألا يا رجائي أنت تكشف كربتي *** فهب لي ذنوبي كلها واقض حاجتي أتيت بأعمال قباح رديئـــــــــــة *** وما في الورى عبد جنى كجـــنايتي أتحرقني بالنار يا غاية المــــنى *** فأين رجائــــي ثم أين مخـــــــافتي قالوا وكان الأصمعي يرقبه فلما خاف أن يغشى عليه أقبل نحوه يهون عليه فقال: يا سيدي علام هذا البكاء والنحيب وأنت من آل بيت الرسول الحبيب؛ والله يقول {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)؟! فقال: كأنك لم تسمع قول جدي صلى الله عليه وسلم الجنة لمن أطاعني ولو كان عبدا حبشيا والنار لمن عصاني ولو كان شريفا قرشيا {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} وأورد ابن كثير عن ابن حاتم عن ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقه ـ قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا، ومصداق ذلك في كتاب الله، قال الله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ} وروى القرطبي قال: قال أبو عمر زاذان: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه فناديت بأعلى صوتي: يا عبد الله بن مسعود! من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال: ادنه؛ فدنوت، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، ومن كان له حق فليأت إلى حقه؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها، ثم قرأ ابن مسعود: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} فيقول الرب سبحانه وتعالى: "آت هؤلاء حقوقهم" فيقول: يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؛ فيقول الرب للملائكة: "خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته، فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما)؛ وإن كان شقيا قالت الملائكة: رب ! فنيت حسناته وبقي طالبون؛ فيقول الله تعالى: "خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم".
[2416]:من سورة الفرقان. الآية 23.
[2417]:من سورة النور. من الآية 39.
[2418]:سورة فاطر. من الآية 36.