فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞وَلَوۡ رَحِمۡنَٰهُمۡ وَكَشَفۡنَا مَا بِهِم مِّن ضُرّٖ لَّلَجُّواْ فِي طُغۡيَٰنِهِمۡ يَعۡمَهُونَ} (75)

{ للجو } لتمادوا ، وأصروا ، واستمروا .

{ طغيانهم } بغيهم وضلالهم وتجاوزهم الحد .

{ يعمهون } يتذبذبون ويخبطون ويترددون .

{ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ { 71 ) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ { 72 ) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ { 73 ) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ { 74 ) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ { 75 ) }

{ بذكرهم } بشرفهم وعزهم .

شهد الله تعالى أن نبيه بنعمة ربه ليس إلا هاديا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ، وما أرسله مولاه الحكيم إلا بالحق { بل جاءهم الحق } وإنما كرهوا ما أنزل الله لأنه لا يوافق أهواءهم ؛ ولو وافق أهواءهم لهلك الكون بمن فيه .

نقل صاحب الجامع لأحكام القرآن عن النحاس : وتقديره في العربية : ولو اتبع صاحب الحق ؛ وقد قيل : هو مجاز ، أي لو وافق الحق أهواءهم ؛ فجعل موافقته اتباعا مجازا ؛ أي لو كانوا يكفرون بالرسل ويعصون الله عز وجل ثم لا يعاقبون ولا يجازون على ذلك . . . لفسدت السماوات والأرض ؛ وقيل : المعنى : ولو كان الحق ما يقولون من اتخاذ آلهة مع الله تعالى لتنافت الآلهة ، وأراد بعضهم ما لا يريده بعض ، فاضطرب التدبير وفسدت السماوات والأرض ، وإذا فسدتا فسد من فيهما . . . وظاهر التنزيل في قراءة الجمهور يكون محملا على فساد ما يعقل من الحيوان ؛ لأن ما لا يعقل تابع لما يعقل في الصلاح والفساد ، فعلى هذا ما يكون من الفساد يعود على من في السماوات من الملائكة بأن جعلت أربابا وهي مربوبة ، وعبدت وهي مستعبدة ؛ وفساد الإنس يكون على وجهين : أحدهما باتباع الهوى ، وذلك مهلك ؛ والثاني بعبادة غير الله ، وذلك كفر . . . اه{[2371]} ؛ بل جئناهم بالقرآن الذي فيه فخرهم وشرفهم كما امتن الله تعالى عليهم بذلك في قوله تبارك اسمه : { فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم . وإنه لذكر لك ولقومك . . ){[2372]} ، فأعرضوا عن الكتاب الذي ترفع به أقدارهم ؛ [ وقيل ! المراد بذكرهم ما تمنوه بقولهم : { لو أن عندنا ذكرا من الأولين . لكنا عباد الله المخلصين ){[2373]} فكأنه قيل : بل أتيناهم بالكتاب الذي تمنوه ]{[2374]} وما دمت تدعو إلى الحق ، وبالحق تقوم السماوات والأرض ، وفي الحق الذي جئت به صيتهم وعزهم فلماذا التكذيب ؟ بل أنكصوا على أعقابهم إذ ناديتم إلى الخير والرشد لأنك تطالبهم بأجر على هدايتك إياهم ؟ كلا ! فإنما أجرك الأوفى تناله من ربك العلي الأعلى ، فأنت لا تسألهم شيئا ، فإن ما آتاك الله في الأولى والأخرى خير مما يجمعون ، وأوسع وأدوم مما هم فيه ممتعون ، وربك خير الرازقين ، فرزقه أبرك رزق وأخلد ؛ ولا يصدنك والمؤمنين عما هداكم إليه رب العالمين ما ترون من نكوص هؤلاء المستكبرين ، فإنك لا تسمع الموتى { . . ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين . وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا . . ){[2375]} فأنت على الحق المبين{[2376]} ، ومن استقام على المنهاج الذي بعثت به أدرك رضوان رب العالمين : { . . إن ربي على صراط مستقيم ){[2377]} ؛ وقد كفر كثير ممن دعوت بالله الواحد ، وكفروا بالحق الذي جاءهم ، والرسول الذي دعاهم ونصح لهم ؛ وكذبوا بما ينتظرهم من الجزاء يوم يلقون ربهم ، فمالوا عن الخير والرشد ميلا عظيما ، فاستوجبوا بكفرهم وتكذيبهم عذابا أليما مقيما ؛ { ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر } بعد أن عاينوا النار وسوء المستقر ، فرددناهم إلى الدنيا لعاودوا الطغيان والشر ، والصدود والكفر ؛ وبهذا شهد كتاب ربنا الحكيم الخبير : { ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين . بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون . وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ){[2378]} فهذا من علمه تعالى بما لا يكون لو كان كيف يكون ؛ قال الضحاك عن ابن عباس : كل ما فيه [ لو ] فهو مما لا يكون أبدا{[2379]}


[2371]:القرطبي في تفسيره جـ 12 ص 140، 141
[2372]:سورة الزخرف. الآية 43 ومن الآية 44
[2373]:سورة الصافات. الآيتان:168 و169.
[2374]:ما بين العارضتين مما أورد الألوسي.
[2375]:سورة النمل. من الآيتين:80، 81.
[2376]:نقل ابن كثير في تفسيره قال: قال الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ملكان فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه اضرب مثل هذا ومثل أمته فقال إن مثل هذا أو مثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا يرجعون به فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال: أرايتم إن أوردتكم رياضا معشبة وحياضا رواء تتبعوني؟ فقالوا: نعم قال فانطلق بهم وأوردهم رياضا معشبة وحياضا رواء فأكلوا وشربوا وسمنوا فقال لهم: ألم ألفكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء أن تتبعوني؟ قالوا: بلى. قال: فإن بين أيديكم رياضا أعشب من هذه وحياضا أروى من هذه فاتبعوني. قال: فقالت طائفة: صدق والله لنتبعنه وقالت طائفة: قد رضينا بهذا نقيم عليه. وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي وبسنده عن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني ممسك بحجزكم هلم عن النار هلم عن النار وتغلبونني تتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض فتردون على معا وأشتاتا أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي أي رب أمتي فيقال يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك.." الحديث.
[2377]:سورة هود. من الآية 56.
[2378]:سورة الأنعام. الآيات 27، 28، 29.
[2379]:ما بين العارضتين أورده ابن كثير