اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَلَوۡلَا كَانَتۡ قَرۡيَةٌ ءَامَنَتۡ فَنَفَعَهَآ إِيمَٰنُهَآ إِلَّا قَوۡمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفۡنَا عَنۡهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (98)

قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } الآية .

لمَّا بيَّن بقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } أتبعه بهذه الآية ؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان ، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان :

فريق ختم له بالإيمان .

وفريق ختم له بالكفر ، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ .

قوله : " فلولا " لولا هنا تحضيضيةٌ ، وفيها معنى التَّوبيخ ؛ كقول الفرزدق : [ الطويل ]

تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ *** بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا{[18619]}

وفي مصحف أبيِّ ، وعبد الله{[18620]} - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى ، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية ، وحملا على ذلك هذه الآية أي : ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم ، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ ، وكانت هنا تامة و " آمنت " صفة ل " قرية " ، وفنفعها نسق على الصِّفة .

قوله : " إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ " فيه وجهان :

أحدهما : أنَّهُ استثناء منقطع ، وإليه ذهب سيبويه ، والكسائي ، والأخفش ، والفراء ، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب " ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه " وإنما كان منقطعاً ؛ لأنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يندرجُ تحت لفظ " قرية " .

والثاني : أنَّه متصلٌ . قال الزمخشري : " استثناءٌ من القرى ، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس ، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً ، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل : ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس " .

وقال ابنُ عطيَّة{[18621]} : هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ ، وكذلك رسمه النَّحويون ، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره : ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس .

قال شهاب الدين{[18622]} : " وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً " ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم . وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي ، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال ، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وقرأت فرقة{[18623]} : " إلاَّ قومُ " بالرَّفع . قال الزمخشريُّ : وقرئ بالرفع على البدل ، روي ذلك عن الجرمي ، والكسائي .

وقال المهدويُّ : " والرَّفْعُ على البدل من قَرْية " . فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ ، وظاهرُ قول مكِّي ، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة ، وإنَّما ذلك من الجائز ، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ ، وهو كون " إلاَّ " بمعنى " غير " في وقوعها صفةً .

قال مكي " ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى " غير " صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى ، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب " غير " لو ظهرت في موضع " إلاَّ " . وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه - : ولو كان قد قُرئ بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة ، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها .

فصل

قال البغويُّ : المعنى فلم تكن قرية ؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ ؛ أي : أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب ، " فنفعها إيمانها " في حال اليَأسِ " إلاَّ قوم يونس " ، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، و " قوم " نصب على الاستثناء المنقطع ، أي : ولكن قوم يونس " لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا ، ومتعناهم إلى حين " ، وهي وقت انقضاء آجالهم ، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب . والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي } ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع ، أو إذا قرب قوله : " ولو شاء ربُّك " يا مُحمَّدُ " لآمن من في الأرض كلهم جميعاً " .

واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة ، والجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم ؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار ، ويعد أتباعه أن الله ينصرهم ، ويعلي شأنهم ، ويقوي جانبهم ، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك ؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد ، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة ، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا . ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله ، ومشيئته وإرشاده ، وهدايته ، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ .


[18619]:تقدم.
[18620]:ينظر: الكشاف 2/371، المحرر الوجيز 3/143، البحر المحيط 5/192، الدر المصون 4/69.
[18621]:ينظر: المحرر الوجيز 3/144.
[18622]:ينظر: الدر المصون 4/70.
[18623]:ينظر: المحرر الوجيز 3/144، البحر المحيط 5/192، الدر المصون 4/69.