قوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } الآية .
لمَّا بيَّن بقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } أتبعه بهذه الآية ؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم ، وانتفعوا بذلك الإيمان ، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان :
وفريق ختم له بالكفر ، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ .
قوله : " فلولا " لولا هنا تحضيضيةٌ ، وفيها معنى التَّوبيخ ؛ كقول الفرزدق : [ الطويل ]
تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ *** بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا{[18619]}
وفي مصحف أبيِّ ، وعبد الله{[18620]} - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى ، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية ، وحملا على ذلك هذه الآية أي : ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم ، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ ، وكانت هنا تامة و " آمنت " صفة ل " قرية " ، وفنفعها نسق على الصِّفة .
قوله : " إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ " فيه وجهان :
أحدهما : أنَّهُ استثناء منقطع ، وإليه ذهب سيبويه ، والكسائي ، والأخفش ، والفراء ، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب " ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه " وإنما كان منقطعاً ؛ لأنَّ ما بعد " إلاَّ " لا يندرجُ تحت لفظ " قرية " .
والثاني : أنَّه متصلٌ . قال الزمخشري : " استثناءٌ من القرى ، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس ، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً ، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل : ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس " .
وقال ابنُ عطيَّة{[18621]} : هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ ، وكذلك رسمه النَّحويون ، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره : ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس .
قال شهاب الدين{[18622]} : " وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً " ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم . وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي ، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال ، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله { واسأل القرية } [ يوسف : 82 ] . وقرأت فرقة{[18623]} : " إلاَّ قومُ " بالرَّفع . قال الزمخشريُّ : وقرئ بالرفع على البدل ، روي ذلك عن الجرمي ، والكسائي .
وقال المهدويُّ : " والرَّفْعُ على البدل من قَرْية " . فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ ، وظاهرُ قول مكِّي ، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة ، وإنَّما ذلك من الجائز ، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ ، وهو كون " إلاَّ " بمعنى " غير " في وقوعها صفةً .
قال مكي " ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى " غير " صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى ، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب " غير " لو ظهرت في موضع " إلاَّ " . وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه - : ولو كان قد قُرئ بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة ، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها .
قال البغويُّ : المعنى فلم تكن قرية ؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ ؛ أي : أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب ، " فنفعها إيمانها " في حال اليَأسِ " إلاَّ قوم يونس " ، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، و " قوم " نصب على الاستثناء المنقطع ، أي : ولكن قوم يونس " لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا ، ومتعناهم إلى حين " ، وهي وقت انقضاء آجالهم ، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم : رأوا دليل العذاب . والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله : { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي } ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع ، أو إذا قرب قوله : " ولو شاء ربُّك " يا مُحمَّدُ " لآمن من في الأرض كلهم جميعاً " .
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة ، والجواب عنها ، وكانت إحدى شبهاتهم ؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار ، ويعد أتباعه أن الله ينصرهم ، ويعلي شأنهم ، ويقوي جانبهم ، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك ؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته ، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية ، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد ، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة ، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا . ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله ، ومشيئته وإرشاده ، وهدايته ، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.