قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر } الآية .
قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [ الأعراف : 138 ] ، وقرأ الحسن{[18598]} ، " وجوَّزْنَا : بتشديد الواو .
قال الزمخشري : وجوَّزْنَا : من أجَازَ المكان ، وجَاوَزهُ ، وجوَّزَهُ ، وليس من " جَوَّز " الذي في بيت الأعشى : [ الكامل ]
وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ *** أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا{[18599]}
لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال : وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر ؛ كما قال : [ الطويل ]
. . . *** كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ{[18600]}
يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل ، وليس التضعيفُ للتَّعدية ، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء .
وقرأ الحسن{[18601]} : " فاتَّبَعَهُمْ " بالتَّشديد ، وقد تقدَّم الفرقُ .
قال القرطبيُّ : يقالُ : تَبعَ ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ ، وقال الأصمعيُّ : يقال : أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه ، وأدْرَكَهُ ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ ، أو لم يدركهُ ، وكذلك قال أبُو زيدٍ ، وقرأ قتادة{[18602]} : " فأتبعهم " بوصل الألف وقيل : اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به ، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً . هذا قولُ أبي عمرو . وقيل : بمعنى واحدٍ .
قوله : " بَغْياً وَعَدْواً " يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي : لأجل البغيْ والعَدْوِ ، وشروط النَّصب متوفرةٌ ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي : باغين متعدِّين .
وقرأ الحسنُ{[18603]} " وُعدواً " بضمِّ العين ، والدَّالِ المشدَّدةِ ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [ الأنعام : 108 ] ، وقوله : " حتى إِذَآ " : غاية لاتباعه .
قوله : " آمَنتُ أَنَّهُ " قرأ الأخوان بكسر{[18604]} " إنَّ " وفيها أوجه :
أحدها : أنَّها استئنافُ إخبار ؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ .
والثاني : أنَّه على إضمار القول أي : فقال إنَّهُن ويكون هذا القول مفسراً لقوله : " آمنتُ " .
والثالث : أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله : " آمنتُ " ، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ ، لأنَّها في معناها ، وحينئذٍ تكون مكسورة ؛ لأنَّها محكيَّة ب " قَالَ " هذا الظاهرُ .
والرابع : أنَّ " آمنتُ " ضُمِّنَ معنى القول ؛ لأنَّه قولٌ . وقال الزمخشريُّ : " كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول " .
يعني أنه قال : " آمنتُ " فهذه مرَّة ، وقال : { أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فهذه مرة ثانية . وقال : { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } فهذه ثالثةٌ ، والمعنى واحد .
وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في " إنَّه " . وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه :
أحدها : أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي : آمنتُ توحيد الله ؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ .
الثاني : أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي : لأنَّه .
الثالث : أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [ يونس : 2 ] .
لمَّا أجاب الله دعاءهما ، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر ، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك ؛ فلمَّا سمع بخروجهم " أتْبَعَهُمْ " أي : لحقهُم ، " بَغْياً وعَدْواً " أي : ظلماً واعتداءً . وقيل : بَغْياً في القولِ ، وعدواً في الفعل ، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا ، وخرجوا ، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ، ليطمع فرعون ، وجنودهُ في العُبُور ، فلمَّا دخل مع جمعه ، ودخل آخرهم ، وهمَّ أوَّلهم بالخروج ، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا " أدْرَكَهُ الغرقُ " أي : غمره الماء ، وقرب هلاكه " قال آمَنْتُ " .
فإن قيل : إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك ؟ .
الأول : أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان ، فذكر هذا الكلام بالنفس .
الثاني : أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته .
فإن قيل : إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري ، فما السَّببُ في عدم القبولِ ؟
أحدها : أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب ، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ، قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .
الثاني : إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة ، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى ، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً .
وثالثها : أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً ، فإنهُ قال : { لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله ، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً ، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده ، وهذا محضُ التَّقليدِ ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة ، لا بالتَّقليد المحضِ .
ورابعها : أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل ، فلما قال فرعون : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته ، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره .
وخامسها : أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم ، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل ، فلمَّا قال فرعونُ : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة ، والحلول والنُّزول ، ومن اعتقد ذلك ؛ فهو كافرٌ ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ .
وسادسها : أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله ، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عليه الصلاة والسلام - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية ، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه ؛ كما لو قال الكافر ألف مرة : أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه : وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، فكذا ههنا .
وسابعها : روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً : ما قولُ الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته ، فكفر بنعمته وجحد حقَّه ، وادَّعَى السِّيادة دونهُ ؟ فكتب فرعون يقول : أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده ، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق ؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.