اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَجَٰوَزۡنَا بِبَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتۡبَعَهُمۡ فِرۡعَوۡنُ وَجُنُودُهُۥ بَغۡيٗا وَعَدۡوًاۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَدۡرَكَهُ ٱلۡغَرَقُ قَالَ ءَامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِيٓ ءَامَنَتۡ بِهِۦ بَنُوٓاْ إِسۡرَـٰٓءِيلَ وَأَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُسۡلِمِينَ} (90)

قوله تعالى : { وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر } الآية .

قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [ الأعراف : 138 ] ، وقرأ الحسن{[18598]} ، " وجوَّزْنَا : بتشديد الواو .

قال الزمخشري : وجوَّزْنَا : من أجَازَ المكان ، وجَاوَزهُ ، وجوَّزَهُ ، وليس من " جَوَّز " الذي في بيت الأعشى : [ الكامل ]

وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ *** أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا{[18599]}

لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال : وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر ؛ كما قال : [ الطويل ]

. . . *** كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ{[18600]}

يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل ، وليس التضعيفُ للتَّعدية ، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء .

وقرأ الحسن{[18601]} : " فاتَّبَعَهُمْ " بالتَّشديد ، وقد تقدَّم الفرقُ .

قال القرطبيُّ : يقالُ : تَبعَ ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ ، وقال الأصمعيُّ : يقال : أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه ، وأدْرَكَهُ ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ ، أو لم يدركهُ ، وكذلك قال أبُو زيدٍ ، وقرأ قتادة{[18602]} : " فأتبعهم " بوصل الألف وقيل : اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به ، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً . هذا قولُ أبي عمرو . وقيل : بمعنى واحدٍ .

قوله : " بَغْياً وَعَدْواً " يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي : لأجل البغيْ والعَدْوِ ، وشروط النَّصب متوفرةٌ ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي : باغين متعدِّين .

وقرأ الحسنُ{[18603]} " وُعدواً " بضمِّ العين ، والدَّالِ المشدَّدةِ ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [ الأنعام : 108 ] ، وقوله : " حتى إِذَآ " : غاية لاتباعه .

قوله : " آمَنتُ أَنَّهُ " قرأ الأخوان بكسر{[18604]} " إنَّ " وفيها أوجه :

أحدها : أنَّها استئنافُ إخبار ؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ .

والثاني : أنَّه على إضمار القول أي : فقال إنَّهُن ويكون هذا القول مفسراً لقوله : " آمنتُ " .

والثالث : أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله : " آمنتُ " ، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ ، لأنَّها في معناها ، وحينئذٍ تكون مكسورة ؛ لأنَّها محكيَّة ب " قَالَ " هذا الظاهرُ .

والرابع : أنَّ " آمنتُ " ضُمِّنَ معنى القول ؛ لأنَّه قولٌ . وقال الزمخشريُّ : " كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول " .

يعني أنه قال : " آمنتُ " فهذه مرَّة ، وقال : { أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فهذه مرة ثانية . وقال : { وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } فهذه ثالثةٌ ، والمعنى واحد .

وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في " إنَّه " . وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه :

أحدها : أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي : آمنتُ توحيد الله ؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ .

الثاني : أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي : لأنَّه .

الثالث : أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [ يونس : 2 ] .

فصل

لمَّا أجاب الله دعاءهما ، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر ، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك ؛ فلمَّا سمع بخروجهم " أتْبَعَهُمْ " أي : لحقهُم ، " بَغْياً وعَدْواً " أي : ظلماً واعتداءً . وقيل : بَغْياً في القولِ ، وعدواً في الفعل ، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا ، وخرجوا ، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً ، ليطمع فرعون ، وجنودهُ في العُبُور ، فلمَّا دخل مع جمعه ، ودخل آخرهم ، وهمَّ أوَّلهم بالخروج ، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا " أدْرَكَهُ الغرقُ " أي : غمره الماء ، وقرب هلاكه " قال آمَنْتُ " .

فإن قيل : إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك ؟ .

فالجوابُ من وجهين :

الأول : أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان ، فذكر هذا الكلام بالنفس .

الثاني : أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته .

فإن قيل : إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري ، فما السَّببُ في عدم القبولِ ؟

فالجواب : من وجوهٍ :

أحدها : أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب ، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول ، قال تعالى : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] .

الثاني : إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة ، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى ، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً .

وثالثها : أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً ، فإنهُ قال : { لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله ، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً ، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده ، وهذا محضُ التَّقليدِ ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة ، لا بالتَّقليد المحضِ .

ورابعها : أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل ، فلما قال فرعون : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته ، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره .

وخامسها : أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم ، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل ، فلمَّا قال فرعونُ : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة ، والحلول والنُّزول ، ومن اعتقد ذلك ؛ فهو كافرٌ ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ .

وسادسها : أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله ، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عليه الصلاة والسلام - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية ، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه ؛ كما لو قال الكافر ألف مرة : أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه : وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله ، فكذا ههنا .

وسابعها : روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً : ما قولُ الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته ، فكفر بنعمته وجحد حقَّه ، وادَّعَى السِّيادة دونهُ ؟ فكتب فرعون يقول : أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده ، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر ، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق ؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه .


[18598]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/120، الكشاف 2/366، المحرر الوجيز 3/140، البحر المحيط 5/187، الدر المصون 4/66.
[18599]:تقدم.
[18600]:عجز بيت للأعشى وصدره: ولا بد من جار يجيز سبيلها *** ... ينظر: ديوانه (120) والبحر المحيط 5/187 وروح المعاني 11/181 والكشاف 2/367 واللسان (فتق) والدر المصون 4/66.
[18601]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/120. الكشاف 2/367، المحرر الوجيز 3/140، البحر المحيط 5/187، الدر المصون 4/66.
[18602]:ينظر: السابق.
[18603]:ينظر: السابق.
[18604]:ينظر: السبعة ص (330)، الحجة للقراء السبعة 4/295، حجة القراءات ص (366)، إعراب القراءات 1/273، إتحاف فضلاء البشر 2/120.