اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَلَقَدۡ بَوَّأۡنَا بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ مُبَوَّأَ صِدۡقٖ وَرَزَقۡنَٰهُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ فَمَا ٱخۡتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُۚ إِنَّ رَبَّكَ يَقۡضِي بَيۡنَهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخۡتَلِفُونَ} (93)

قال تعالى : { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } الآية .

لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل ، فقال : " ولقدْ بوَّأنا " أي : أسكنا بني إسرائيل " مُبَوَّأ صِدْقٍ " أي : مكاناً محموداً .

ويجُوزُ أن يكون " مُبَوَّأ صِدْقٍ " منصوباً على المصدر ، أي : بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ ، وأن يكون مكاناً أي : مكان تبوُّء صدقٍ .

ويجوز أن ينتصب " مُبَوَّأ " على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً } [ العنكبوت : 58 ] أي : لنُنْزلنَّهُمْ . ووصف المُبَوَّأ بكون صدقاً ؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ ، تقولُ : رَجُلٌ صدقٌ ، وقدم صدقٍ ، قال تعالى : { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الإسراء : 80 ] .

والمراد بالمبوَّأ الصدق : قيل : " مصر " ، وقيل : الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } الحلال " فَمَا اخْتَلَفُوا " يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ " حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ " يعنى القرآن ، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق ، وسمى القرآن علماً ؛ لأنه سببُ العِلْمِ ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور .

قال ابنُ عباس : هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق : ما بين المدينة ، والشام ورزقناهم من الطيبات ، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب ، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد{[18614]} وقيل : المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق ، والصامت ، والحرث ، والنسل ، كما قال : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا } [ الأعراف : 137 ] .

فصل

في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان :

الأول : أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ويفتخرون به على سائر النَّاس ، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً ، وبغياً وإيثارااً لبقاء الرِّياسة ، وآمن به طائفةٌ منهم ، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم .

الثاني : أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة ، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً . ثم قال : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي : أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا ، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة ، فيتميز المحق من المبطل .


[18614]:ذكره الرازي في "تفسيره" (17/127).