اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ فَسۡـَٔلِ ٱلَّذِينَ يَقۡرَءُونَ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكَۚ لَقَدۡ جَآءَكَ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِينَ} (94)

قوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } الآية .

قال الواحديُّ " الشَّك في اللغةِ ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ ، يقال : شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله ، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ : البُيوتُ المُصطفَّة ، والشَّكائِكُ : الأدْعياءُ ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم ، أي : يضُمُّون ، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه .

فإذا قالوا : شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين ، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه " .

ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة .

وفي " إن " هذه وجهان :

أظهرهما : أنَّها شرطيةٌ ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ : " فإن قلت : كيف قال لرسوله : " فإن كُنت في شكٍّ " مع قوله للكفرة : { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [ هود : 110 ] ؟ قلت : فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل " . وقال أبو حيان : فإذا كانت شرطية فقالوا : إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده ، المبهم زمن وقوعه ، كقوله تعالى : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون } [ الأنبياء : 34 ] قال : " والذي أقوله إنَّ " إن " الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه ، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك ، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى : { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض } [ الأنعام : 35 ] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ " .

ثم قال : " ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس ؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة : الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له ، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ أو يعارض ؛ كقوله : { يا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] وقوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة : { يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } [ يونس : 104 ] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه ؛ لكان شك غيره في نبوته أولى ، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية ، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه ، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار ، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة ، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة ، والإنجيل ؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة ، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة :

المصدقون ، والمكذبون ، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه ، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال : أيُّها الإنسان : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته " .