اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَٱلۡيَوۡمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنۡ خَلۡفَكَ ءَايَةٗۚ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنۡ ءَايَٰتِنَا لَغَٰفِلُونَ} (92)

قوله : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } في " بِبدنِكَ " وجهان :

أحدهما : أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك ، وهي الدَّرْع ، فيكونُ " بِبدنِكَ " في موضع الحالِ .

قال المفسِّرُون : لمْ يُصدِّقُوا بغرقه ، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض ، وعليه درعهُ ليعرفوهُ ، والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع ، قال عمرو بن معد يكرب : [ الوافر ]

أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي *** وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ{[18605]}

وقال آخرُ : [ الوافر ]

تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مسْبَغَاتٍ *** عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا{[18606]}

أراد بالأبدان : الدُّرُوع ، واليَلَبُ : الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض ، وهو اسم جنس ، الواحد : يَلَبَةٌ .

وقيل : بِبدنِكَ أي : عُرْيَان لا شيء عليه ، وقيل : بَدَناً بلا رُوحٍ .

والثاني : أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز ؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته ، وذلك على{[18607]} قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع " بِندَائِكَ " من النِّداءِ ، وهو الدُّعاء : أي : بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله : { ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف : 51 ] { فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 23 ، 24 ] { يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] . وقرأ يعقوب{[18608]} " نُنْجِيكَ " مخففاً من أنجاه . وقرأ أبو{[18609]} حنيفة : " بأبْدانِكَ " جمعاً : إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع ، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه ، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله : " شَابَتْ مَفارِقُهُ " ؛ قال : [ الكامل ]

. . . *** شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا{[18610]}

وقرأ ابن مسعود ، وابن{[18611]} السميفع ، ويزيد البربري ننحيك بالحاء المهملة من التَّنْحِيةِ أي : نُلْقيكَ فيما يلي البحر ، قال المفسرون : رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور . وهل ننَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر ، وهو تهكُّم بهم ، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي : رَبْوة مرتفعة ، أو من النَّجاة ، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ ، وهو العلامة ، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة ، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ : { فاليوم نُنَجِّيكَ } خبرٌ محض . وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ ، ولأنَّ التعليل بقوله " لِتكُون " لا يُناسِبُ الاستفهام .

و " لِتَكُونَ " متعلقٌ ب " نُنَجِّيكَ " و " آيَةً " أي : علامة وقيل : عِبْرةً وعِظَةً ، و " لِمَنْ خَلْفكَ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " آيَةً " لأنَّه في الأصل صفةٌ لها .

وقرأ بعضهم " لِمَنْ خلقك " آية كسائر الآيات . وقرئ{[18612]} " لِمَن خلَفكَ " بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً ، أي : لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك . وقرئ{[18613]} " لِمَنْ خلقَكْ " بالقاف فعْلاً ماضياً ، وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده .

فصل

في كونه " لِمَنْ خلفه آيةً " وجوه :

أحدها : أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك ، وزعموا أنَّ مثله لا يموت ، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم .

الثاني : أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته .

الثالث : أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه ، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى ، وعلى صدق موسى - عليه الصلاة والسلام - في دعوة النبوَّةِ .

الرابع : تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته .

ثم قال تعالى { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل ، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .


[18605]:ينظر البيت في ديوانه (60) والبحر المحيط 5/188 والكشاف 2/369 والدر المصون 4/67.
[18606]:البيت لكعب بن مالك. ورواية الديوان: ترانا من فضافض سابغات *** كغدران الملا متسربلينا ينظر: ديوانه (279) والبحر المحيط 5/188 والقرطبي 8/243 وفتح القدير 2/470 والدر المصون 4/67.
[18607]:ينظر: المحرر الوجيز 3/142، البحر المحيط 5/189، الدر المصون 4/67.
[18608]:ينظر: السابق.
[18609]:ينظر: الكشاف 2/369، المحرر الوجيز 3/142، البحر المحيط 5/189، الدر المصون 4/67.
[18610]:عجز بيت لجرير وصدره: قال العواذل ما لجهلك بعدها *** ... ينظر: ديوانه 289 والكتاب 3/483 والدر المصون 4/68.
[18611]:ينظر: الكشاف 2/369، المحرر الوجيز 3/142، البحر المحيط 5/189، الدر المصون 4/67.
[18612]:ينظر: الكشاف 2/369، المحرر الوجيز 3/142، البحر المحيط 5/189، الدر المصون 4/98.
[18613]:ينظر: السابق.