قوله : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } في " بِبدنِكَ " وجهان :
أحدهما : أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك ، وهي الدَّرْع ، فيكونُ " بِبدنِكَ " في موضع الحالِ .
قال المفسِّرُون : لمْ يُصدِّقُوا بغرقه ، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض ، وعليه درعهُ ليعرفوهُ ، والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع ، قال عمرو بن معد يكرب : [ الوافر ]
أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي *** وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ{[18605]}
تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مسْبَغَاتٍ *** عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا{[18606]}
أراد بالأبدان : الدُّرُوع ، واليَلَبُ : الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض ، وهو اسم جنس ، الواحد : يَلَبَةٌ .
وقيل : بِبدنِكَ أي : عُرْيَان لا شيء عليه ، وقيل : بَدَناً بلا رُوحٍ .
والثاني : أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز ؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته ، وذلك على{[18607]} قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع " بِندَائِكَ " من النِّداءِ ، وهو الدُّعاء : أي : بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله : { ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [ الزخرف : 51 ] { فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 23 ، 24 ] { يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] . وقرأ يعقوب{[18608]} " نُنْجِيكَ " مخففاً من أنجاه . وقرأ أبو{[18609]} حنيفة : " بأبْدانِكَ " جمعاً : إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع ، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه ، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله : " شَابَتْ مَفارِقُهُ " ؛ قال : [ الكامل ]
. . . *** شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا{[18610]}
وقرأ ابن مسعود ، وابن{[18611]} السميفع ، ويزيد البربري ننحيك بالحاء المهملة من التَّنْحِيةِ أي : نُلْقيكَ فيما يلي البحر ، قال المفسرون : رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور . وهل ننَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر ، وهو تهكُّم بهم ، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي : رَبْوة مرتفعة ، أو من النَّجاة ، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ ، وهو العلامة ، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة ، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ : { فاليوم نُنَجِّيكَ } خبرٌ محض . وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ ، ولأنَّ التعليل بقوله " لِتكُون " لا يُناسِبُ الاستفهام .
و " لِتَكُونَ " متعلقٌ ب " نُنَجِّيكَ " و " آيَةً " أي : علامة وقيل : عِبْرةً وعِظَةً ، و " لِمَنْ خَلْفكَ " في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " آيَةً " لأنَّه في الأصل صفةٌ لها .
وقرأ بعضهم " لِمَنْ خلقك " آية كسائر الآيات . وقرئ{[18612]} " لِمَن خلَفكَ " بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً ، أي : لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك . وقرئ{[18613]} " لِمَنْ خلقَكْ " بالقاف فعْلاً ماضياً ، وهو الله تعالى أي : ليجعلك الله آية له في عباده .
في كونه " لِمَنْ خلفه آيةً " وجوه :
أحدها : أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك ، وزعموا أنَّ مثله لا يموت ، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم .
الثاني : أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته .
الثالث : أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه ، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى ، وعلى صدق موسى - عليه الصلاة والسلام - في دعوة النبوَّةِ .
الرابع : تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته .
ثم قال تعالى { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل ، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها ، كما قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } [ يوسف : 111 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.