اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ قَدۡ أُجِيبَت دَّعۡوَتُكُمَا فَٱسۡتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ} (89)

قوله : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } : الضمير لمُوسى وهارُون .

قيل : كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن ، فنسب الدعاء إليهما ؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ ؛ لأنَّ قوله : " آمين " أي : استجب .

وقيل : المراد موسى وحده ، ولكن كنًى عن الواحد بضمير الاثنين .

وقيل : لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء ؛ غاية ما في الباب أن يقال : إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى ، بقوله : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً .

وقرأ السلمي{[18593]} ، والضحاك : " دَعواتُكُما " على الجمع .

وقرأ ابن السَّميفع : " قَدْ أجبتُ دعوتكما " {[18594]} بتاء المتكلم ، وهو الباري - تعالى - ، " دَعوتَكُمَا " نصب على المفعول به .

وقرأ الرِّبيع : " أجَبْتُ دعوتيكُما " {[18595]} بتاء المتكلم أيضاً ، ودعوتيكما تثنيةٌ ، وهي تدلُّ لمن قال : إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء .

قوله : " فاسْتَقِيمَا " أي : على الدَّعوة والرِّسالة ، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ ، قال ابن جريج : لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة{[18596]} .

" وَلاَ تَتَّبِعَانِّ " : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون ، وقرأ حفص{[18597]} بتخفيف النُّون مكسورة ، مع تشديد التَّاء وتخفيفها ، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ .

فأمَّا قراءةُ العامَّة ، ف " لا " فيها للنَّهي ، ولذلك أكَّد الفعل بعدها ، ويضعفُ أن تكون نافية ؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه ، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله : { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ } [ الأنفال : 25 ] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك ، وقد تقدَّم تحريره في موضعه ، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ .

قال الزجاج : " ولا تتَّبعانِّ " : موضعه جزم ، تقديره : و لا تتَّبِعَا ، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة ، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها ، وسكون النون التي قبلها ، فاختير لها الكسرة ، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية .

وأمَّا قراءة حفص ، ف " لاَ " : تحتمل أن تكون للنَّفي ، وأن تكون للنَّهْي .

فإن كانت للنفي ، كانت النون نون رفعٍ ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه :

أحدها : أنَّها في موضع الحال ، أي : فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المنفيَّ ب " لا " كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال ، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ ، فتكون الجملة اسميَّة أي : وأنتما لا تتَّبعَان .

والثاني : أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي ؛ كقوله - تعالى - : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } [ البقرة : 83 ] .

الثالث : أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف ، لا تعلُّق له بما قبله ، والمعنى : أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون .

وإن كانت للنَّهي ، كانت النون للتوكيد ، وهي الخفيفة ، وهذا لا يراه سيبويه ، والكسائي ، أعني : وقوع النون الخفيفة بعد الألف ، سواء كانت الألف ألف تثنية ، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث ، ونون التوكيد ، نحو " هل تضربنانِ يا نسوة " وقد أجاز يونس ، والفرَّاء : وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ ، وقيل : أصلها التشديد ، وإنَّما خففت للثقل فيها ؛ كقولهم : " رُبَ " في " رُبَّ " .

وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها ، فلغتان ، من اتَّبَع يتَّبع ، وتَبع يتْبَع ، وقد تقدَّم [ الأعراف : 175 ] هل هما بمعنى واحد ، أو مختلفان في المعنى ؟ وملخصه : أنَّ تتبعه بشيءٍ : خلفه ، واتَّبعه كذلك ، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ ، وأتبعه : لحقهُ .

فصل

المعنى : لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه : متى كان الدعاء مُجاباً ، كان المقصُود حاصلاً في الحال ، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه ، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر ؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له ، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال ؛ كما قال لنُوح - عليه الصلاة والسلام - { إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين } [ هود : 46 ] ، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عليه الصلاة والسلام - كما أن قوله : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] لا يدل على صدور الشرك منه .


[18593]:ينظر: الكشاف 2/366، المحرر الوجيز 3/139، البحر المحيط 5/186، الدر المصون 4/65.
[18594]:ينظر: البحر المحيط 5/186، الدر المصون 4/65.
[18595]:ينظر: المحرر الوجيز 3/139، البحر المحيط 5/186، الدر المصون 4/65.
[18596]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/603، 604).
[18597]:ينظر: السبعة ص (329)، الحجة 4/292، حجة القراءات ص (336)، إعراب القراءات 1/272-273، النشر 2/286، إتحاف البشر 2/119.