قوله تعالى : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ } الآية .
لما استدل أولاً بأحوال السماء والأرض ، وثانياً بالآثار العلوية استدل ثالثاً بأحوال الحيوانات . قال ابن عطية : قرأ حمزة والكسائي : { واللَّهُ خَالِقُ كُلِّ دَابَّةٍ } على الإضافة{[8]} ، فإن قيل : لم قال : { والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّاءٍ } مع أن كثيراً من الحيوانات لم يُخْلَقْ من الماء ، كالملائكة{[9]} خلقوا من النور{[10]} ، وهم أعظم الحيوانات عدداً ، وكذلك الجن وهم مخلوقون من النار ، وخلق آدم من التراب لقوله : { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ }{[11]} [ آل عمران : 59 ] وخلق عيسى من الريح لقوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا }{[12]} [ التحريم : 12 ] ونرى كثيراً من الحيوانات يتولد لا عن نطفة ؟ فالجواب من وجوه :
أحسنها : ما قال القفال : إنَّ «مَاءٍ » صلة «كُلَّ دَابَّةٍ » وليس هو من صلة «خَلَق » والمعنى : أنَّ كلَّ دَابَّةٍ متولدة من الماء فهي مخلوقة لله تعالى .
وثانيها : أنَّ أصل{[13]} جميع المخلوقات الماء على ما روي : «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء ، ثم من ذلك الماء خلق النار والهواء والنور » . والمقصود من هذه الآية : بيان أصل الخلقة ، وكان أصل الخلقة الماء ، فلهذا ذكره الله تعالى .
وثالثها : المراد من «الدَّابَّة » : التي تدب{[14]} على وجه الأرض ، ومسكنهم هنالك{[15]} ، فيخرج الملائكة والجن ، ولما كان الغالب من هذه الحيوانات كونهم مخلوقين من الماء ، إما لأنها متولدة من النطفة ، وإما لأنها لا تعيش إلا بالماء ، لا جرم أطلق عليه لفظ الكل تنزيلاً للغالب منزلة الكل{[16]} .
وقيل : الجار في قوله{[17]} : «مِنْ مَاء » متعلق ب «خَلَقَ » أي : خَلَقَ مِنْ ماءٍ كُلَّ دَابَّةٍ ، و «مِنْ » لابتداء الغاية{[18]} . ويرد على هذا السؤال المتقدم .
فإن قيل : لم نكر{[19]} الماء في قوله : «مِنْ مَاءٍ » وعرفه في قوله : { مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }{[20]} [ الأنبياء : 30 ] ؟
فالجواب : جاء هاهنا منكراً لأنّ المعنى : خلق كلّ دابة من نوع من الماء مختصاً بتلك الدابة ، وعرفه في قوله : { مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] لأنّ المقصود هناك : كونهم{[21]} مخلوقين من هذا الجنس ، وهاهنا بيان أنّ ذلك الجنس ينقسم إلى أنواع كثيرة{[22]} .
قوله : { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي } . إنما أطلق «مَنْ » على غير العاقل لاختلاطه بالعاقل في المُفَضَّل ب «مِن » وهو «كُلَّ دَابَّةٍ »{[23]} . وكان التعبير ب «مَنْ » أولى ليوافق اللفظ{[24]} .
وقيل : لَمَّا وَصَفَهُمْ بِما يُوصف به العقلاء وهو المشيُ أطلق عليها «منْ »{[25]} وفيه نظرٌ ، لأن هذه الصفة ليست خاصةً بالعقلاء ، بخلاف قوله تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ }{[26]} [ النحل : 17 ] ، وقوله :
أَسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ{[27]} . . .
البيت .
وقد تقدَّم خلاف القرَّاء في { خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } في سورة «إبراهيم »{[28]} .
واستعير المشي للزَّحف{[29]} على البطن ، كما استعير المشفر للشفة وبالعكس{[30]} ، كما قالوا في الأمر المستمر : قد مشى هذا الأمر ، ويقال : فلان ما يمشي له أمر{[31]} . فإن قيل : لم حصر القسمة في هذه الثلاثة أنواع من المشي ، وقد تجد من يمشي على أكثر من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلات{[32]} والحيوان الذي أربعة وأربعون رجلاً ؟
فالجواب : هذا القسم الذي لم يذكر كالنادر ، فكان ملحقاً بالعدم{[33]} . وأيضاً قال النقاش : إنه اكتفى بذكر ما يمشي على أربع عن ذكر ما يمشي على أكثر ، لأنّ جميع الحيوان إنما اعتماده على أربع ، وهي قوام مشيه{[34]} ، وكثرة الأرجل لبعض{[35]} الحيوان زيادة في الخِلْقَة{[36]} ، لا يحتاج ذلك الحيوان في مشيه إلى جميعها{[37]} . قال ابن عطية : والظاهر أن تلك الأرجل الكثيرة ليست باطلاً ، بل هي محتاج إليها في نقل الحيوان ، وهي كلها تتحرك في تصرفه{[38]} .
وجواب آخر وهو أن قوله تعالى : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ } كالتنبيه على سائر الأقسام{[39]} .
وفي مصحف أبيّ بن كعب : «وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَكْثَر » فعم بهذه الزيادة جميع الحيوان ، ولكنه قرآن لم يثبت بالإجماع{[40]} .
قوله : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَاءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } لأنه هو{[41]} القادر على الكل ، والعالم بالكل ، فهو المطلع على أحوال هذه الحيوانات ، فأي عقل يقف عليها ؟ وأي خاطر يصل إلى ذَرَّة{[42]} من أسرارها ؟ بل هو الذي يخلق ما يشاء كما يشاء ، ولا يمنعه منه مانع{[43]} .
[8]:ينظر: تفسير القرطبي (20/93).
[10]:الجامع لأحكام القرآن 20/91.
[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.
[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[37]:روي ذلك عن مقاتل، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/389.
[38]:آية 61 من سورة آل عمران. والبهل: اللعن: وفي حديث ابن الصبغاء قال: الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا: لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة. يقال: باهلت فلانا؟ أي لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس: من شاء باهلته أن الحق معي.
ينظر: اللسان (بهل).
[39]:(نجران) بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاثة وسعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي، وذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. قال ابن سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم، فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضا من حديث كرز بن علقمة: أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا، وسرد أسماءهم.
وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخل في الإسلام، حتى يلتزم أحكام الإسلام، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يقم بعدها غير شهرين، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى الجزية عليهم؛ فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام، وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران؛ ليأتيه بصدقتاهم وجزيتهم، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة والله أعلم. ينظر فتح الباري 8/428، 429.
[40]:والحبرة والحبرة: ضرب من برود اليمن منمر، والجمع حبر وحبرات. الليث: حبرة ضرب من البرود اليمانية. يقال برد حبير وبرد حبرة، مثل عنبة. على الوصف والإضافة وبرود حبرة. قال: وليس حبرة موضعا أو شيئا معلوما إنما هو وشيء كقولك ثوب قرمز. ينظر لسان العرب 2/749- 750. (حبر)، النهاية في غريب الحديث 1/328.