اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِنۡ أَمَرۡتَهُمۡ لَيَخۡرُجُنَّۖ قُل لَّا تُقۡسِمُواْۖ طَاعَةٞ مَّعۡرُوفَةٌۚ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرُۢ بِمَا تَعۡمَلُونَ} (53)

قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } . في «جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ » وجهان :

أحدهما : أنه منصوب على المصدر بدلاً من اللفظ بفعله ، إذ أصل : أقسم بالله جهد اليمين : أقسم بجهد اليمين جهداً ، فحذف الفعل وقدَّم المصدر موضوعاً موضعه ، مضافاً إلى المفعول ك «ضَرْبَ الرِّقَابِ »{[35197]} ، قاله{[35198]} الزمخشري{[35199]} .

والثاني : أنه حال ، تقديره : مُجتهدين في أيمانهم ، كقولهم : افعل{[35200]} ذلك جهدك وطاقتك . وقد خلط الزمخشريّ الوجهين فجعلهما وجهاً واحداً فقال بعد ما تقدَّم عنه : وحكم هذا المنصوب حكم الحال ، كأنه قيل : جاهدين أيمانهم{[35201]} وتقدم الكلام على «جَهْد أيْمَانِهِم » في المائدة{[35202]} .

فصل

قال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد{[35203]} في اليمين{[35204]} ، وذلك أن المنافقين كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أينما كنت نكن معك ، لئن خرجت خرجنا ، وإن أقمت أقمنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا » . فقال الله تعالى : «قُلْ » لهم «لاَ تُقْسَمُوا » لا تحلفوا ، وهاهنا تم الكلام{[35205]} .

ولو كان قسمهم لما{[35206]} يجب لم يجز النهي عنه ، لأنّ{[35207]} من حلف على القيام بالبر والواجب لا يجوز أن ينهى عنه ، فثبت أنّ قسمهم كان لنفاقهم ، وكان باطنهم بخلاف ظاهرهم ، ومن نوى الغدر لا الوفاء فقسمه قبيح{[35208]} .

قوله : «طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ » . في رفعها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر تقديره : «أَمْرُنَا طَاعَةٌ » ، أو «المطلوب طَاعَةٌ » {[35209]} .

والثاني : أنها{[35210]} مبتدأ والخبر محذوفٌ ، أي : ( أَمْثَل أَوْ أَوْلَى{[35211]} ){[35212]} .

وقد تقدَّم أَنَّ الخبر متى كان في الأصل مصدراً بدلاً من اللفظ بفعل وجب حذف مبتدأه{[35213]} ، كقوله : «صَبْرٌ جَمِيلٌ »{[35214]} ، ولا يبرز إلاّ اضطراراً ، كقوله :

فَقَالَتْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ أَمرُكَ طَاعَةٌ *** وإنْ كُنْتُ قَدْ كُلِّفْتُ مَا لَمْ أُعَوَّدِ{[35215]}

على خلاف في ذلك .

والثالث : أن يكون فاعله بفعل محذوف ، أي : ولتكن طاعة ، ولتوجد طاعة .

واستضعف ذلك بأنَّ الفعل لا يحذف إلاَّ ( إذا ) {[35216]} تقدَّم مشعر به ، كقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال }{[35217]} [ النور : 36 ] في قراءة من بناه للمفعول{[35218]} ، أي : يُسَبِّحُهُ رِجَالٌ . أو{[35219]} يجاب به نفيٌ ، كقولك : بلى{[35220]} زيدٌ لمن قال : «لم يقم أحدٌ » . أو استفهام{[35221]} كقوله :

أَلاَ هَلْ أَتَى أُمَّ الحُوَيْرِثِ مُرْسَل *** بَلَى خَالِدٌ إنْ لَمْ تَعُقه العَوَائِق{[35222]}

وقرأ زيد بن علي و{[35223]}اليزيديّ : «طاعةً » بنصبها{[35224]} بفعل مضمر ، وهو الأصل . قال أبو البقاء :

ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً في العربية ، وذلك على المصدر ، أي : أطيعوا طاعةً وقولوا قولاً ، وقد دلَّ عليه قوله{[35225]} بعدها : { قُلْ أَطِيعُواْ الله }{[35226]} قال شهاب الدين : ( قوله : ( ولو قرئ بالنصب لكان جائزاً ) قد تقدم النقل لقراءته ){[35227]} . وأما قوله : ( وقولوا قولاً ) فكأنه سبق لسانه إلى آية القتال ، وهي : { فأولى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ }{[35228]} [ محمد : 20 - 21 ] ولكن النصب هناك ممتنع أو بعيد{[35229]} .

فصل

المعنى : هذه طاعة بالقول باللسان دون الاعتقاد ، وهي معروفة{[35230]} ، أي : أمر عرف منكم أنكم تكذبون وتقولون ما لا تفعلون ، قاله مجاهد . وقيل : طاعة معروفة بنية خالصة أفضل وأمثل من يمين باللسان لا يوافقها الفعل{[35231]} . وقال مقاتل بن سليمان : لتكن{[35232]} منكم طاعة معروفة . هذا على قراءة الرفع{[35233]} . وأما على قراءة النصب{[35234]} فالمعنى : أطيعوا الله طاعةً{[35235]} و { الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : لا يخفى عليه شيء من سرائركم ، فإنه فاضحكم لا محالة ، ومجازيكم على نفاقكم .


[35197]:[محمد: 4].
[35198]:في ب: قال. وهو تحريف.
[35199]:الكشاف 3/81.
[35200]:في ب: فعل.
[35201]:الكشاف 3/81.
[35202]:عند قوله تعالى: {ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم} [المائدة: 53].
[35203]:في الأصل: اجتهد.
[35204]:انظر الفخر الرازي 24/22 – 23.
[35205]:انظر الفخر الرازي 24/23.
[35206]:في ب: لا. وهو تحريف.
[35207]:في ب: لأنه. وهو تحريف.
[35208]:انظر الفخر الرازي 24/23.
[35209]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/125، الكشاف 3/81، البيان 2/189، التبيان 2/976، البحر المحيط 6/468.
[35210]:في ب: أنه.
[35211]:انظر مشكل إعراب القرآن 2/125، الكشاف 3/81، البيان 2/198، التبيان 2/976، البحر المحيط 6/468.
[35212]:ما بين القوسين في ب: أمثلى أوالى. وهو تحريف.
[35213]:والأصل في هذا النصب، لأنه جيء به بدلا من اللفظ بفعله فلم يجز إظهار ناصبه، لئلا يكون جمعا بين البدل والمبدل منه، ثم حمل الرفع على النصب، فالتزم إضمار المبتدأ. انظر الهمع 1/104.
[35214]:[يوسف: 83].
[35215]:البيت من بحر الطويل قاله عمر ابن أبي ربيعة. الشاهد فيه قوله: (أمرك طاعة) حيث صرح بلفظ المبتدأ مع أن الخبر مصدر بدل من الفعل بلفظه وهو ضرورة. وظاهر كلام ابن جني في الخصائص أن هذا ليس من باب الضرورة، فإنه قال في الآية: (وإن شئت كان على: أمرنا طاعة وقول معروف، وعليه قوله: البيت) 2/362. وقد تقدم.
[35216]:إذا: سقط من الأصل.
[35217]:من الآية (36) من السورة نفسها.
[35218]:وهي قراءة ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر. السبعة (456).
[35219]:في ب: و.
[35220]:في النسختين: يكن.
[35221]:انظر البحر المحيط 6/468، الهمع 1/160.
[35222]:البيت من بحر الطويل قاله أبو ذؤيب الهذلي، واستشهد به على حذف الفعل إذا كان جواب الاستفهام، وذلك أن قوله (خالد) فاعل لفعل محذوف في جواب الاستفهام والتقدير بلى أتاها خالد. لأن المحذوف يفسره المذكور، وهو قوله: (أتى). وقد تقدم.
[35223]:و: سقط من ب.
[35224]:المختصر (103)، البحر المحيط 6/468.
[35225]:في التبيان: قوله تعالى.
[35226]:التبيان 2/976.
[35227]:ما بين القوسين في الدر المصون: ماودة أن يقرأ به قد قرئ به كما تقدم نقله.
[35228]:[محمد: 20، 21].
[35229]:وذلك أن "أولى" مبتدأ، و "لهم" الخبر، وقيل: "أولى" مبتدأ و"لهم" من صلته، و"طاعة" الخبر، فهذه جملة اسمية، والعطف على كونها جملة اسمية أولى. وقيل: "طاعة" مبتدأ، والخبر محذوف، والتقدير: طاعة وقول معروف أمثل من غيره. وقيل: "طاعة" خبر لمبتدأ محذوف تقديره: أمرنا طاعة. انظر الكتاب 1/141، البحر المحيط 8/81، وانظر الدر المصون 5/117.
[35230]:انظر البغوي 6/136.
[35231]:انظر الفخر الرازي 23/23.
[35232]:في ب: ليس. وهو تحريف.
[35233]:وهي قراءة العامة. أي أن (طاعة) فاعل لفعل محذوف، وقد ضعف ابن عادل هذا الوجه، وهو الوجه الثالث.
[35234]:وفي قراءة زيد بن علي واليزيدي، كما تقدم.
[35235]:أي أن (طاعة) بالنصب بفعل مضمر، كما تقدم.