اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ} (37)

قوله : «لا تُلْهِيهِمْ » في محل رفع صفة ل{[34940]} «رِجَالٌ » . ( و ) {[34941]} خص الرجال بالذكر في هذه المساجد ، لأنه ليس على النساء جمعة ولا جماعة في المسجد{[34942]} . «لاَ{[34943]} تُلْهِيهِمْ » : تشغلهم ، «تِجَارَةٌ » قيل : خص التجارة بالذكر ، لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان عن الصلاة والطاعات .

قال الحسن : أما والله إنهم كانوا يتجرون ، ولكن إذا جاءتهم فرائض الله لم يلههم عنها شيء ، فقاموا بالصلاة والزكاة{[34944]} . فإن قيل : البيع داخل في التجارة ، فلم أعاد البيع ؟ فالجواب من وجوه{[34945]} :

الأول : أن التجارة جنس يدخل تحته أنواع الشراء والبيع ، وإنما خص البيع بالذكر لأن الالتهاء به أعظم ، لكون{[34946]} الربح الحاصل من البيع معين ناجز ، والربح الحاصل من الشراء مشكوك مستقبل .

الثاني : أن البيع تبديل العرض بالنقدين{[34947]} ، والشراء بالعكس ، والرغبة في تبديل النقد أكثر من العكس .

الثالث : قال الفراء : التجارة لأهل الجَلْب ، يقال : تجر فلان في كذا : إذا جلب من غير بلده ، والبيع ما باعه على يديه{[34948]} .

الرابع : أراد بالتجارة الشراء وإن كان اسم التجارة يقع على البيع والشراء جميعاً ، لأنه ذكر البيع بعده كقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً }{[34949]} [ الجمعة : 11 ] يعني : الشراء{[34950]} .

قوله : { عَن ذِكْرِ الله } عن حضور المساجد لإقامة الصلاة . فإن قيل : فما معنى قوله : «وَإقَامِ الصَّلاَةِ ؟ » فالجواب قال ابن عباس : المراد بإقامة الصلاة : إقامتها لمواقيتها ، لأن من أخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة .

ويجوز أن يكون قوله : «الصَّلاَة » تفسيراً لذكر الله ، فهم يذكرون قبل الصلاة{[34951]} .

قال الزجاج : وإنما حذفت الهاء ، لأنه يقال : أقمت الصلاة إقامة ، وكان الأصل : إقواماً ، ولكن قُلِبَت الواو ألفاً ، فاجتمعت ألفان ، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين فبقي : أقَمْتُ الصلاة إقاماً ، فأدخلت الهاء عوضاً عن المحذوف ، وقامت الإضافة هاهنا في التعويض مقام الهاء المحذوفة وهذا إجماع من النحويين{[34952]} .

فصل

المراد : الصلوات المفروضة لما روى سالم{[34953]} ( عن ) {[34954]} ابن عمر أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فقام الناس وأغلقوا حوانيتهم ، فدخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت هذه الآية : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة »{[34955]} .

وقوله : «وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ » يريد : المفروضة . قال ابن عباس : إذا حضر وقت أداء الزكاة لم يحبسوها{[34956]} . وروي عن ابن عباس أيضاً : المراد من الزكاة : طاعة الله والإخلاص . وهذا ضعيف لأنه تعالى علق الزكاة بالإيتاء{[34957]} ، وهذا لا يحتمل إلا ما يعطى من حقوق المال{[34958]} . قوله : «يخَافُونَ يَوْماً » يجوز أن يكون نعتاً ثانياً ل «رِجَالٌ » ، وأن يكون حالاً من مفعول «تُلْهِيهِمْ »{[34959]} و «يَوْماً » مفعول به لا ظرف على الأظهر{[34960]} ، و «تَتَقَلَّبُ » صفة ل «يَوْماً » .

قوله : { تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } : تتقلب القلوب عما كانت عليه في الدنيا من الشرك والكفر وتنفتح الأبصار من الأغطية بعد أن كانت مطبوعة عليها لا تبصر ، وكلهم انقلبوا من الشك إلى اليقين ، كقوله : { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ }{[34961]} [ الزمر : 47 ] وقوله : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ }{[34962]} [ ق : 22 ] . وقيل : تتقلب القلوب تطمع في النجاة وتخشى الهلاك ، وتتقلب الأبصار من أي ناحية يؤخذ أمن{[34963]} ناحية اليمين أم{[34964]} من ناحية الشمال ؟ ومن أي ناحية يعطون كتابهم ، أمن قبل اليمين أم من قبل الشمال ؟

والمعتزلة لا يرضون بهذا التأويل ، لأنهم قالوا : إن أهل الثواب لا خوف عليهم البتة ، وأهل العقاب لا يرجون العفو . وقيل : إن القلوب تزول من أماكنها فتبلغ الحناجر ، والأبصار تصير زرقاً{[34965]} . وقيل : تقلب البصر : شخوصه من هول الأمر وشدته{[34966]} .

( وقال الجبائي : تقلب القلوب والأبصار ){[34967]} : تغير هيئاتها بسبب ما ينالها من العذاب . قال : ويجوز أن يريد به تقليبها على جمر{[34968]} جهنم كقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ{[34969]} }{[34970]} [ الأنعام : 110 ] .


[34940]:لـ : سقط من ب.
[34941]:و: تكملة ليست بالمخطوط.
[34942]:انظر القرطبي 12/279.
[34943]:لا: سقط من ب.
[34944]:انظر الفخر الرازي 24/4.
[34945]:في ب: وجهين. وهو تحريف.
[34946]:في ب: لأن.
[34947]:في ب: بالتعديل.
[34948]:معاني القرآن 2/253.
[34949]:[الجمعة: 11].
[34950]:انظر الفخر الرازي 24/ 4 – 5.
[34951]:انظر الفخر الرازي 24/5.
[34952]:معاني القرآن وإعرابه 4/46.
[34953]:هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، العدوي، أبو عمر، أحد الفقهاء السبعة، وردت الرواية عنه في حروف القرآن. مات سنة 106 هـ. طبقات القراء 1/301.
[34954]:عن: سقط من الأصل.
[34955]:انظر تفسير ابن عطية 10/516 – 517، الفخر الرازي 24/4.
[34956]:انظر البغوي 6/126.
[34957]:في ب: علق الإيتاء بالزكاة.
[34958]:انظر الفخر الرازي 24/5.
[34959]:انظر التبيان 2/971.
[34960]:وذلك على حذف مضاف أي: يخافون حساب يوم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، لأن الزمان والمكان محلان للحدث، ولا يقع الحدث عليهما.
[34961]:[الزمر: 47].
[34962]:[ق: 22].
[34963]:في النسختين: من.
[34964]:في ب: أو.
[34965]:انظر الفخر الرازي 24/ 5 – 6.
[34966]:انظر البغوي 6/126 – 127.
[34967]:ما بين القوسين سقط من ب.
[34968]:في النسختين: جسر.
[34969]:[الأنعام: 110].
[34970]:انظر الفخر الرازي 24/6.