اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَسَارِعُوٓاْ إِلَىٰ مَغۡفِرَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ وَجَنَّةٍ عَرۡضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلۡأَرۡضُ أُعِدَّتۡ لِلۡمُتَّقِينَ} (133)

قرأ نافعُ ، وابْنُ عَامِرٍ : سارعوا - بدون واو{[5919]} - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام .

والباقون بواو العطف ، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ .

فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك ، أو أراد العطف ، لكنه حذف العاطفَ ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى : { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، فإن قوله : { وَسَارِعُواْ } ، وقوله : { وَأَطِيعُواْ } كالشيء الواحد ، وقد تقدم ضعف هذا المذهب .

ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها ، وبعد إتباع الأثر في التلاوة ، أتبع كل رسم مصحفه .

ورَوَى الكِسَائِيُّ : الإمالة في { وَسَارِعُواْ } ، و { أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ } [ المؤمنون : 61 ] ، و{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ } [ المؤمنون : 56 ] وذلك لمكان الراء المكسورة .

قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة لِ " مَغْفِرَةٍ " ، و " مِنْ " للابتداء مجازاً .

فصل

قال بعضهم : في الكلام حذف ، والتقدير : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم .

وفيه نظر ؛ لأن الموجب للمغفرة ، ليس إلا أفعال المأمورات ، وترك المنهيات ، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات ، وترك المنهيات .

وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية ، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور{[5920]} ؛ لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه : المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم ، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام .

فصل

قال ابْنُ عَبَّاسٍ : إلى الإسلام{[5921]} .

ورُوِيَ عنه إلى التوبة{[5922]} - وهو قول عكرمة - والمعنى : وبادروا ، وسابقوا .

وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب : إلى أداء الفرائض{[5923]} ؛ لأن الأمر مُطْلَق ، فيعم كل المفروضات .

وقال عثمان بن عفان : إنه الإخلاص{[5924]} ؛ لأنه المقصود من جميع العبادات ؛ لقوله تعالى : { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ البينة : 5 ] .

وقال أبو العالية : إلى الهجرة {[5925]} .

وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق : إلى الجهاد{[5926]} ؛ لأن من قوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد ، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد .

وقال سعيد بن جبير : إلى التكبيرة الأولى{[5927]} ، وهو مروي عن أنس . وقال يمان : إنه الصلوات .

وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل : إنه جميع الطاعة{[5928]} ؛ لأن اللفظ عام ، فيتناول الكُلَّ .

وقال الأصَمُّ : { وَسَارِعُواْ } بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب ؛ لأنه - تعالى - نهى أوَّلاً عن الربا ، ثم قال : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وهذا يدل على أن المراد منه : المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه .

قال ابنُ الخَطِيبِ : " والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات ، والتوبة عن جميع المحظورات ، لأن اللفظ عامّ ، فلا وَجْهَ لتخصيصه ، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة ، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما ؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها حصول الثواب ، فجمع بينهما ؛ للإشعار بأنه ، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين " .

قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [ لا بد فيه من حَذْف ؛ لأن نفس السماوات ] {[5929]} لا تكون عرضاً للجنة ، فالتقدير : عرضها مثل عرض السماوات والأرض ، يدل على ذلك قوله : " كعرض " ، والجملة في محل جر صفة لِ " جَنَّةٍ " .

فصل

في معنى قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } وجوه :

أحدها : أن المراد : لو جُعِلَت السماواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً ، لكان مثل عرض الجنة .

وثانيها : أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السماوات والأرض ، إنَّما تكون للرجل الواحد ؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له .

وثالثها : قال أبو مسلم : إن الجنة لو عُرِضت بالسماوات والأرض على سبيل البيع ، لكانت ثمناً للجنة ، يقول : إذا بعت الشيء بالشيء : عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذلك - أيضاً - في معنى : القيمة ؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر .

ورابعها : أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة ؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها ، ونظيره قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [ هود : 107-108 ] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السماوات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه .

فإن قيل : لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر .

فالجواب من وجهين :

الأول : أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها ، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم ، فالظاهر أن الطول يكون أعظم ، ونظيره قوله : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] ، فذكر البطائن ؛ لأن الظاهرَ أنَّها أقل حالاً من الظِّهارة ، فإذا كانت البطائن هكذا ، فكيف الظهارة .

الثاني : قال القفّال : ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة ، واسعة عظيمة .

قال الشاعر : [ الطويل ]

كَأنَّ بِلاَدَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ *** عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ{[5930]}

والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة .

فصل

رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضُها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار .

فقال صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ! ! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار " {[5931]} .

ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا : أرأيتم قولكم : وجنة عرضها السماوات والأرض ؟ فأين النار .

قال عُمَرُ : أرأيتم إذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ وإذا جاء الليل ، أين يكون النهار .

فقالوا له : إنه لمثلها في التوراة ، ومعناه حيث شاء الله {[5932]} .

سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة ، أفي السماء ، أم في الأرض .

فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة .

قيل : فأين هي .

فقال : فوق السماوات السبع ، تحت العرش{[5933]} .

وقال قتادة : كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السماوات السبع ، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع {[5934]} .

فإن قيل : قال الله تعالى : { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة ، وإذا كانت الجنة في السماء ، فكيف يكون عَرْضُها السماواتُ والأرض .

فالجواب : أن باب الجنة في السماء ، وعرضها كما أخبر .

وقيل : إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة ، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السماوات ، و النار في مكان الأرض .

قوله : { أُعِدَّتْ } يجوز أن يكون محلها الجَرّ ، صفة ثانية لِ " جَنَّةٍ " ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من " جَنَّةٍ " ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت ، فقَرُبَت من المعارف .

قال أبو حيان : " ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه ؛ لثلاثة أشياء :

أحدها : أنه لا عامل ، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه .

والثاني : أن العرض - هنا - لا يراد به : المصدر الحقيقي ، بل يراد به : المسافة .

الثالث : أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال ، وصاحبه بالخبر " .

يعني بالخبر : قوله : { السَّمَاوَاتُ } ، وهو رَدٌّ صحيح .

وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما .

وقالت المعتزلة : إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا ، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء ؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب ، فخُلِقتا في وقت الجزاء ؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف ، ودار الجزاء في الدنيا ، كما لم يجتمعا في الآخرة .

وقال ابن فورك : " الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة " .


[5919]:انظر: السبعة 216، والكشف 1/356، والحجة 3/77، 78، والعنوان 80 وإعراب القراءات 1/119، وحجة القراءات 174، وشرح شعلة 321، وشرح الطيبة 4/167، وإتحاف 1/488.
[5920]:اختلفت آراء العلماء فيما يقتضيه الأمر المجرد عن القرائن، هل يقتضي الفور أو التراخي؟ وقد انعكس هذا الاختلاف فيما بينهم إلى اختلافهم في كثير من الأحكام الفقهية المستنبطة. إن إفادة الأمر للفور تقتضي أن يمتثل المكلف لهذا الأمر، دون تأخير عند سماعه الأمر وعدم المانع، فإذا تأخر دون عذر، لم تبرأ ذمته. أما إفادته التراخي، فهي تقتضي أنه ليس واجبا على المكلف المبادرة لأداء الأمر فورا، بل له أن يؤخره إلى وقت آخر، إذا ظن القدرة على أدائه في ذلك الوقت. وقد اختلفت آراء العلماء في ذلك إلى مذاهب، سنذكرها فيما يلي: فالذين ذهبوا إلى أ صيغة الأمر للتكرار قالوا: إن الأمر يدل على الفور؛ فيلزم من دلالته على التكرار بذاتها دلالتها على الفور. والذين ذهبوا إلى أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن لا تدل على التكرار بذاتها، اختلفوا فيما بينهم، إلى فرق ومذاهب متعددة. المذهب الأول: وهو رأي الجمهور من الشافعية، والحنفية، واتباعهم، واختاره سيف الدين الآمدي، وابن الحاجب، والإمام الرازي، والقاضي البيضاوي؛ حيث قالوا: إن صيغة الأمر لا تدل على الفور، وهو طلب الإتيان وامتثال الفعل عقب ورود الأمر، ولا على التراخي؛ إنما صيغة الأمر موضوعة لطلب الفعل، وإيجاد حقيقته في الوجود الخارجي، فهي –إذا- لمطلق الطلب من غير تقييد بفوز أو تراخ. المذهب الثاني: ويعزى إلى بعض المالكية، والحنابلة، والحنفية؛ حيث ذهبوا إلى القول بأنه يدل على الفور، وهو امتثال الفعل في أول أوقات الإمكان من غير تراخ. قال القرافي: وهو عند مالك للفور، وعند الحنفية خلافا لأصحابنا المغاربة والشافعية وقال القاضي عبد الوهاب: إنه للفور. المذهب الثالث: وينسب للقاضي أبي بكر الباقلاني؛ حيث ذهب إلى أن الأمر يدل على الفور، فيجب الفعل في أول الوقت، أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال. المذهب الرابع: وإليه ذهب الإمام الجويني؛ حيث توقف عن القول بالفور أو التراخي. قال الجويني: فتمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما على الآخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفوز؛ لاحتمال وجوب التراخي. والذي نختاره من هذه المذاهب: هو مذهب الجمهور، والذي يرى أن صيغة الأمر المجردة عن القرائن لا تدل على الفور، ولا على التراخي. قال الرازي في "المحصول": والحق أنه موضوع لطلب الفعل، وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور، وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إعار بخصوص كونه فورا، أو تراخيا. ينظر: المعتمد 1/120، العدة لأبي يعلى 1/281، اللمع ص 9، التبصرة ص 52، البرهان لإمام الحرمين 1/231، المستصفى 2/4، المنخول ص 111، المحصول 1/2/189، الإحكام للآمدي 2/242، أصول السرخسي 1/26، المنتهى لابن الحاجب ص 68، شرح التنقيح ص 128، الإبهاج 2/57، الروضة ص 105، تيسير التحرير 1/356، التمهيد للإسنوي ص 287، حاشية بخيت على نهاية السول 2/287، فواتح الرحموت 1/387.
[5921]:ذكره الرازي في "التفسير الكبير" (5/9) وأبو حيان في "البحر المحيط" (3/61) عن ابن عباس.
[5922]:ينظر تفسير القرطبي (4/131) والبحر المحيط (3/62).
[5923]:انظر المصادر السابقة.
[5924]:انظر تفسير القرطبي (4/131).
[5925]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (5/9) وأبو حيان في "البحر المحيط" عن أبي العالية.
[5926]:انظر المصدرين السابقين.
[5927]:ينظر تفسير القرطبي (4/131) و"البحر المحيط" (3/62) لأبي حيان.
[5928]:ينظر تفسير الرازي (9/5).
[5929]:سقط في أ.
[5930]:البيت للبيد بن ربيعة وقيل للقتال الكلابي. ينظر ملحقات ديوان لبيد بن ربيعة ص 238 وديوان القتال الكلابي ص 99 ولباب التأويل 1/419 والقرطبي 4/205 وغريب القرآن لابن قتيبة ص 112 واللسان (كفف) والبحر المحيط 3/62.
[5931]:أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (3/441- 442) والطبري في "تفسيره" (7/209). وذكره الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" (5/ 15- 16) من رواية أحمد وقال: هذا حديث غريب وإسناده لا بأس به تفرد به أحمد.
[5932]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/211) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/129) وعزاه لعبد بن حميد وابن المنذر.
[5933]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (6/9) عن أنس بن مالك.
[5934]:انظر المصدر السابق.