قرأ نافعُ ، وابْنُ عَامِرٍ : سارعوا - بدون واو{[5919]} - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام .
والباقون بواو العطف ، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ .
فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك ، أو أراد العطف ، لكنه حذف العاطفَ ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى : { ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ } [ الكهف : 22 ] ، فإن قوله : { وَسَارِعُواْ } ، وقوله : { وَأَطِيعُواْ } كالشيء الواحد ، وقد تقدم ضعف هذا المذهب .
ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها ، وبعد إتباع الأثر في التلاوة ، أتبع كل رسم مصحفه .
ورَوَى الكِسَائِيُّ : الإمالة في { وَسَارِعُواْ } ، و { أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ } [ المؤمنون : 61 ] ، و{ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ } [ المؤمنون : 56 ] وذلك لمكان الراء المكسورة .
قوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } صفة لِ " مَغْفِرَةٍ " ، و " مِنْ " للابتداء مجازاً .
قال بعضهم : في الكلام حذف ، والتقدير : وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم .
وفيه نظر ؛ لأن الموجب للمغفرة ، ليس إلا أفعال المأمورات ، وترك المنهيات ، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات ، وترك المنهيات .
وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية ، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور{[5920]} ؛ لأنه ذكر المغفرة على سبيل التنكير ، والمراد منه : المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم ، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام .
قال ابْنُ عَبَّاسٍ : إلى الإسلام{[5921]} .
ورُوِيَ عنه إلى التوبة{[5922]} - وهو قول عكرمة - والمعنى : وبادروا ، وسابقوا .
وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب : إلى أداء الفرائض{[5923]} ؛ لأن الأمر مُطْلَق ، فيعم كل المفروضات .
وقال عثمان بن عفان : إنه الإخلاص{[5924]} ؛ لأنه المقصود من جميع العبادات ؛ لقوله تعالى : { وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } [ البينة : 5 ] .
وقال أبو العالية : إلى الهجرة {[5925]} .
وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق : إلى الجهاد{[5926]} ؛ لأن من قوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ } [ آل عمران : 121 ] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد ، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد .
وقال سعيد بن جبير : إلى التكبيرة الأولى{[5927]} ، وهو مروي عن أنس . وقال يمان : إنه الصلوات .
وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل : إنه جميع الطاعة{[5928]} ؛ لأن اللفظ عام ، فيتناول الكُلَّ .
وقال الأصَمُّ : { وَسَارِعُواْ } بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب ؛ لأنه - تعالى - نهى أوَّلاً عن الربا ، ثم قال : { وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } وهذا يدل على أن المراد منه : المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه .
قال ابنُ الخَطِيبِ : " والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات ، والتوبة عن جميع المحظورات ، لأن اللفظ عامّ ، فلا وَجْهَ لتخصيصه ، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة ، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة ، وإنما فصل بينهما ؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب ، والجنة معناها حصول الثواب ، فجمع بينهما ؛ للإشعار بأنه ، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين " .
قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [ لا بد فيه من حَذْف ؛ لأن نفس السماوات ] {[5929]} لا تكون عرضاً للجنة ، فالتقدير : عرضها مثل عرض السماوات والأرض ، يدل على ذلك قوله : " كعرض " ، والجملة في محل جر صفة لِ " جَنَّةٍ " .
في معنى قوله : { عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } وجوه :
أحدها : أن المراد : لو جُعِلَت السماواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً ، لكان مثل عرض الجنة .
وثانيها : أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السماوات والأرض ، إنَّما تكون للرجل الواحد ؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له .
وثالثها : قال أبو مسلم : إن الجنة لو عُرِضت بالسماوات والأرض على سبيل البيع ، لكانت ثمناً للجنة ، يقول : إذا بعت الشيء بالشيء : عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر ، وكذلك - أيضاً - في معنى : القيمة ؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر .
ورابعها : أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة ؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها ، ونظيره قوله : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ } [ هود : 107-108 ] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السماوات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه .
فإن قيل : لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر .
الأول : أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها ، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم ، فالظاهر أن الطول يكون أعظم ، ونظيره قوله : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] ، فذكر البطائن ؛ لأن الظاهرَ أنَّها أقل حالاً من الظِّهارة ، فإذا كانت البطائن هكذا ، فكيف الظهارة .
الثاني : قال القفّال : ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول ، بل هو عبارة عن السعة ، كما تقول العرب : بلاد عريضة ، ويقال : هذه دعوى عريضة ، واسعة عظيمة .
كَأنَّ بِلاَدَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ *** عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ{[5930]}
والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة .
رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : إنك تدعو إلى جنة عرضُها السماوات والأرض أعدت للمتقين ، فأين النار .
فقال صلى الله عليه وسلم : " سبحان الله ! ! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار " {[5931]} .
ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا : أرأيتم قولكم : وجنة عرضها السماوات والأرض ؟ فأين النار .
قال عُمَرُ : أرأيتم إذا جاء النهار ، أين يكون الليل ؟ وإذا جاء الليل ، أين يكون النهار .
فقالوا له : إنه لمثلها في التوراة ، ومعناه حيث شاء الله {[5932]} .
سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة ، أفي السماء ، أم في الأرض .
فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة .
فقال : فوق السماوات السبع ، تحت العرش{[5933]} .
وقال قتادة : كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السماوات السبع ، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع {[5934]} .
فإن قيل : قال الله تعالى : { وَفِي السَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة ، وإذا كانت الجنة في السماء ، فكيف يكون عَرْضُها السماواتُ والأرض .
فالجواب : أن باب الجنة في السماء ، وعرضها كما أخبر .
وقيل : إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة ، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السماوات ، و النار في مكان الأرض .
قوله : { أُعِدَّتْ } يجوز أن يكون محلها الجَرّ ، صفة ثانية لِ " جَنَّةٍ " ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من " جَنَّةٍ " ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت ، فقَرُبَت من المعارف .
قال أبو حيان : " ويجوز أن يكون مستأنفاً ، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه ؛ لثلاثة أشياء :
أحدها : أنه لا عامل ، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه .
والثاني : أن العرض - هنا - لا يراد به : المصدر الحقيقي ، بل يراد به : المسافة .
الثالث : أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال ، وصاحبه بالخبر " .
يعني بالخبر : قوله : { السَّمَاوَاتُ } ، وهو رَدٌّ صحيح .
وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن ، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما .
وقالت المعتزلة : إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا ، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء ؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب ، فخُلِقتا في وقت الجزاء ؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف ، ودار الجزاء في الدنيا ، كما لم يجتمعا في الآخرة .
وقال ابن فورك : " الجنة في السماء ، ويزاد فيها يوم القيامة " .