هذه اللفظة ، قيل : هي مركبة من كاف التشبيه ، ومن " أيِّ " ، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير ، المفهوم من " كَمْ " الخبرية ، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير : " كذا " في قولهم : له عندي كذا درهماً ، والأصل : كاف التشبيه و " ذا " الذي هو اسم إشارة ، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير ، ف " كم " الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد ، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر ؛ ألا ترى أن " لولا " حدث لها معنًى جديدٌ ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون ؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً ، إلا أن الصحابة كتبتها " كَأيِّنْ " - بثبوت النون - ، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون ؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف .
ووقف أبو عمرو{[6022]} وسورة بن المبارك عن الكسائي " كأي " - من غير نون - على القياس .
واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء ، منها : أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها ، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة .
أحدها : " كأيِّنْ " - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة ، إلاَّ ابن كثير{[6023]} .
كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ *** أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ ، وَهُمُ كِرَامُ{[6024]}
الثانية : " كائِنْ " - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير{[6025]} وجماعة ، وهي أكثر استعمالاً من " كأيِّنْ " وإن كانت تلك الأصل- .
وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ *** يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا{[6026]}
وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ{[6027]}- *** . . .
وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ{[6028]} *** . . .
أنشده المفضل ممدوداً ، مهموزاً ، مخففاً .
واختلفوا في توجيه هذه القراءة ، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان ، يكون ، فهو كائن ، واستبعده مكِّيّ ، قال : لإتيان " مِنْ " بعده ، ولبنائه على السكون . وكذلك أبو البقاء ، قال : " وهو بعيد الصحة ؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً ، ولم يكن فيه معنى التكثير " .
لا يقال : هذا تحامُل على المبرد ؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء ، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في " كذا " ، و " لولا " ، ونحوهما ، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل إلى معنى ، ويُبْنَى من غير سبب ، فلم يُوجد له نظير .
وقيل : هذه القراءة أصلها " كَأيِّنْ " - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب ، فصارت " كائن " مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه :
أحدها : أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة ، فصار وزنها كَعَلف ، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام ، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف ، كما قالوا في : " أيُّها " ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً ، كما قلبوها في نحو آية - والأصل : أيَّة - وكما قالوا : طائِيّ - والأصل : طَيئ - فصار اللفظ " كَأيِنْ " ووزنه كَعْف ، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام ، واللام قد حُذفَتْ .
الوجه الثاني : أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين - وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً ؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها ، فصار " كائن " ووزنه كلف .
الوجه الثالث : ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة ، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء ، فتحركت الياءُ ، وانفتح ما قبلها ، فقُلِبَتْ ألفاً ، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء ، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين ، وبقيت إحدى الياءين متطرفة ، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ .
الوجه الرابع : أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ ، فانقلبت ألفاً ، وبقيت الأخرى ساكنة ، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف ؛ لما تقدم من حذف العين ، وتأخير الفاء ، وإنما الأعمال تختلف .
اللغة الثالثة : " كَأْيِنْ " - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن ، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن ، والأشهبُ العقيلي{[6029]} ، ووجهها أن الأصل : " كَأيِّنْ " - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت الياءُ الثانية ، استثقالاً ، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء ؛ لالتقاء الساكنين ، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب ، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا " فهو " و " فهي " .
اللغة الرابعة : " كَيْإن " بياء ساكنة ، بعدها همزة مكسورة ، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها ، وقرأ بها بعضهم .
اللغة الخامسة : " كإنْ " - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً .
كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا *** ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ{[6030]}
أحدهما : أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب .
والثاني : أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره - ، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ ؛ لحذف العين واللام منه .
واختلفوا في " أي " هل هي مصدر في الأصل ، أم لا ؟
فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً ، وهو قول أبي البقاء ؛ فإنه قال " كَأيِّنْ " الأصل فيه : " أيٌّ " ، التي هي بعض من كل ، أدخلت عليها كافُ التشبيه .
وفي عبارته عن " أيّ " بأنها بعض من كل ، نظر لأنها ليست بمعنى : بعض من كل ، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم " بعض " في مطابقة الجُزْء ، وعود الضمير ، نحو : أيُّ الرجلين قائم ولا نقول : قاما ، فليست هي التي " بعض " أصلاً .
وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم ، واجتمع - والأصل : أوْيٌ ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون ، فقلبت الواو ياء ، وأدغمت في الياء ، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه " أي " فإنها للعموم ، والعموم يستلزم الاجتماع .
وهل هذه الكاف الداخلة على " أي " تتعلق بغيرها من حروف الجر ، أم لا ؟
والصحيح أنها لا تتعلق بشيء ؛ لأنها مع " أي " صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي " كم " - فلم تتعلق بشيء ، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه- .
وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل ، فقال : " أما العامل في الكاف ، فإن جعلناها على حكم الأصل ، فمحمول على المعنى ، والمعنى : إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم ، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى " كم " ، كان العامل بتقدير الابتداء ، وكانت في موضع رفع ، و " قاتل " الخبر ، و " مِنْ " متعلقة بمعنى " الاستقرار " ، والتقدير الأول أوضح ؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى ، بما يجب من الخفض في " أي " ، وإذا كانت " أي " على بابها من معاملة اللفظ ، ف " من " متعلقة بما تعلقت به الكاف من المعنى المدلول عليه " اه . وهو كلام غريب .
واختار أبو حيان أن " كأين " كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين ؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل ، وهذه طريق سهلة ، والنحويون ذكروا هذه الأشياء ؛ محافظةً على أصولهم ، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد ، وتمرين الذهن . هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب ، فموضعها رفع بالابتداء ، وفي خبرها أربعة أوجه :
أحدها : أنه " قاتل " فإن فيه ضميراً مرفوعاً به ، يعود على المبتدأ ، والتقدير : كثير من الأنبياء قاتل .
قال أبو البقاء : والجيد أن يعود الضمير على لفظ " كأين " ، كما تقول : مائة نبي قُتِل ، فالضمير للمائة ؛ إذ هي المبتدأ .
فإن قيل : لو كان كذلك لأنثت ، فقلت : قُتِلَتْ ؟
قيل : هذا محمول على المعنى ؛ لأن التقدير : كثير من الرجال قُتِل .
كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ " نَبِيّ " ، فعلى هذا جملة { مَعَهُ رِبِّيُّونَ } جملة في محل نصب على الحال من الضمير في " قُتِل " .
ويجوز أن يرتفع " ربيون " على الفاعلية بالظرف ، ويكون الظرف هو الواقع حالاً ، التقدير : استقر معه ربيون .
وهو أولى ؛ لأنه من قبيل المفردات ، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة .
ويجوز أن يكون " مَعَهُ " - وحده - هو الحال ، و " رِبِّيُّونَ " فاعل به ، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال ؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني : الضمير في " مَعَهُ " .
ويجوز أن يكون حالاً من " نَبِيّ " - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ ؛ ذكره مكي . وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال .
قال أبو حيان : وهي حال محكية ، فلذلك ارتفع " ربيون " بالظرف - وإن كان العامل ماضياً ، لأنه حكى الحال الماضية ، كقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيد } [ الكهف : 18 ] ، وذلك على مذهب البصريين ، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من " أل " مطلقاً .
وفيه نظر ؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل ، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية ، بل يدعى تعلُّقه بفعل ، تقديره : استقر معه ربيون .
الوجه الثاني : أن يكون " قَاتَلَ " جملة في محل جر ؛ صفة لِ " نَبِيّ " ، و { مَعَهُ رِبِّيُّونَ } هو الخبر ، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني : إن شئت أن تجعل " مَعَهُ " خبراً مقدماً ، و " ربِّيُّونَ " مبتدأ مؤخراً ، والجملة خبر " كَأيِّنْ " ، وأن تجعل " مَعَهُ " - وحده - هو الخبر ، و " ربِّيُّونَ " فاعل به ؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر .
الوجه الثالث : أن يكون الخبر محذوفاً ، تقديره : في الدنيا ، أو مضى ، أو : صابر ، وعلى هذا ، فقوله : " قَاتَلَ " في محل جر ؛ صفة لِ " نَبِيٍّ " ، و " مَعَهُ ربِّيُّونَ " حال من الضمير في " قَاتَلَ " - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون " مَعَهُ ربِّيُّونَ " صفة ثانية ل " نَبِيٍّ " ، وُصِف بصفتين : بكونه قاتل ، وبكونه معه ربيون .
الوجه الرابع : أن يكون " قَاتَلَ " فارغاً من الضمير ، مسنداً إلى " رِبِّيُّونَ " وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان :
أحدهما : أن تكون خبراً ل " كأيِّنْ " .
الثاني : ان تكون في محل جر ل " نَبِيٍّ " والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه .
وقال أبو البقاء : ويجوز أن يكون " قَاتَلَ " مسنداً لِ " رِبِّيُّونَ " ، فلا ضمير فيه على هذا ، والجملة صفة " نَبِيٍّ " .
ويجوز أن يكون خبراً ، فيصير في الخبر أربعة أوجه ، ويجوز أن يكون صفةً لِ " نَبِيٍّ " والخبر محذوف على ما ذكرنا .
وقوله : صفة ل " رَبِّيُّونَ " يعني : أن القتل من صفتهم في المعنى ، وقوله : " فيصير في الخبر أربعة أوجه " يعني : ما تقدم له من أوجه ذكرها ، وقوله : فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة " نبي " غلط ؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ .
فإن قلتَ : إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً ؟
قلت : قد ذكر أوجهاً أخَر ؛ حيثُ قال : " ويجوز أن تكون صفة ل " نَبِيٍّ " والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا " .
ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ ، وتخاذل المؤمنين حين قيل : إن محمداً قد ماتَ مقتولاً ؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة . وعن ابن عباسٍ - في قوله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } [ آل عمران : 161 ] - قال : النبي يُقتل فكيف لا يُخَان{[6031]} ؟
وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ ، قالوا : لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله- .
وقرأ ابن كثيرٍ ، ونافع ، وأبو عمرو : قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك ، إلا أنه شدد التاء{[6032]} ، وباقي السبعة : قاتل ، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير " نَبِيّ " وأن يرفع " رِبِّيُّونَ " - كما تقدم تفصيلُهُ- .
وقال ابنُ جني : إنَّ قراءة : قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني : " رِبِّيُّونَ " - قال : لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه .
قال أبو البقاء : " ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول ؛ لأنه في معنى الجماعةِ " .
يعني أن " مِنْ نَبِيٍّ " المراد به الجنس ، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص ؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد ؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ .
وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ- استشعر به أبو الفتحِ ، وأجاب عنه ، قَالَ : فإن قيل : فهلاَّ جاز فُعِّل ؛ حَمْلاً على معنى " كَمْ " ؟
فالجواب : أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله : " مِنْ نَبِيٍّ " ودلَّ الضمير المفرد " مَعَهُ " على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ ، فخرج الكلامُ على معنى " كم " . قال : في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ " قُتِلَ " أو " قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ " فإن " ربِّيُّونَ " مرفوعٌ في قراءته ب " قُتِل " أو " قَاتَل " وليس مرفوعاً بالابتداء ، ولا بالظرف ، الذي هو " مَعَه " .
قال أبو حيّان : " وليس بظاهر ؛ لأن " كأين " مثل " كَمْ " وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ : كم من عانٍ فككته ، فأفردت ، راعيت لفظ " كم " ومعناها جمع ، فإذا قلت : فككتهم ، راعيت المعنى ، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير ، والمراد به الجمع . فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم ، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون ، وقتل معهم ربيون ، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً ، ومراعاة المعنى تارة ؛ لأن مدلول " كم " و " كأين " كثير ، والمعنى : جمع كثير ، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد ؛ مراعاةً للفظ ، وتارة تجمع ؛ مراعاة للمعنى ، كما قال تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُر } [ القمر : 44 و45 ] ، فقال : " مُنْتَصِر " وقال : " وَيُوَلُّونَ " فأفرد في " مُنْتَصِرٌ " وجمع في " يُوَلُّونَ " .
ورجح بعضهم قراءة " قَاتَلَ " لقوله - بعد ذلك - : { فَمَا وَهَنُواْ } قال : وإذا قتلوا ، فكيف يوصفون بذلك ؟ إنما يوصف بهذا الأحياء ؟
والجوابُ : أن معناه : قتل بعضهم ، كما تقول : قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا ، ثم انصرفوا .
وقال ابن عطية : قراءة من قَرَأ " قَاتَلَ " أعم في المدْحِ ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي ، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين ، وعلى قراءة : قتل - إسناده إلى " نبي " .
قال أبو حيّان : " قتل " يظهر أنها مدح ، وهي أبلغ في مقصود الخطاب ؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل ، ويستلزم المقاتلة . و " قَاتَل " لا تدلُّ على القتل ؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل ؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل .
قوله : { مِّن نَّبِيٍّ } تمييز ل " كَأيِّنْ " لأنها مثل " كم " الخبرية .
وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب " من " ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك ، وهذا هو الأكثرُ الغالب . قال وقد جاء تمييزُها منصوباً ، قال الشاعرُ : [ الخفيف ]
أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن *** آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ{[6033]}
فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً *** قَدِيماً ، وَلاَ تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ{[6034]}
وأما جره فممتنع ؛ لأن آخرَها تنوين ، وهو لا يثبت مع الإضافة .
و " ربيون " : جمع رِبِّيّ ، وهو العالم ، منسوب إلى الرَّبّ ، وإنما كُسِرت راؤه ؛ تغييراً في النسب ، نحو : إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل : كُسِر للإتباع .
وقيل : لا تغيير فيه ، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ ، وقرأ عليّ ، وابنُ مسعودٍ ، وابن عبّاسٍ ، والحسنُ " رُبِّيُّونَ " - بضم الراء{[6035]} - وهو من تغيير النسبِ ، إذا قلنا : هو منسوب إلى الربِّ ، وقيل : لا تغيير ، وهو منسوب إلى الربة ، وهي الجماعة .
قال القرطبيُّ " واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها " .
وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة{[6036]} - رَبِّيُّونَ ، بفتحها على الأصل ، إن قلنا : منسوب إلى الرَّبِّ ، وإلا فمن تغيير النسب ، إن قلنا : إنه منسوب إلى الربة .
قال ابن جني : والفتح لغة تميم .
وقال النقاشُ : " هم المكثرون العلم " من قولهم : رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه ؛ لاختلاف المادتين ؛ لأن تلك من راء وياء وواو ، وهذه من راء وباء مكررة . قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ : الجماعات الكثيرة{[6037]} وقال ابنُ مسعودٍ : والربيون : الألوف{[6038]} .
وقال الكلبيّ{[6039]} : الرِّبِّيَّة الواحدة : عشرة آلاف{[6040]} .
وقال الضَّحَّاك : الرَّبِّيَّة الواحدة ألف{[6041]} ، وقال الحسنُ : رِبِّيُّون : فُقَهاء وعُلَماء . {[6042]}
وقيل : هم الأتباع{[6043]} ، فالربانيون : الولاة{[6044]} ، و الربانيون : الرعية . وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون : الألوف .
قوله : " كَثِيرٌ " صفة لِ " رِبِّيُّونَ " وإن كان بلفظ الإفرادِ ؛ لأن معناه الجمع .
معنى الآية - على القراءة الأولى - أن كثيراً من الأنبياء قُتِلوا ، والذين بَقُوا بعدهم ما وَهَنوا في دينهم ، بل استمرُّوا على نُصْرَة دِينهم [ وقتال ] {[6045]} عدوِّهم ، فينبغي أن يكون حالُكُم - يا أمة محمدٍ - هكذا .
قال القفالُ : والوقف - في هذا التأويل - على قوله : " قُتِل " وقوله { مَعَهُ رِبيُّونَ كَثِيرٌ } حال ، بمعى : قُتِل حال ما كان معه ربيون كثير . أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي : وكأين من نبي معه ربيون كثيرٌ ، فما وهن الربيون على كثرتهم .
وقيل : المعنى : وكأين من نبي قُتِل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثيرٌ ، فما ضَعُفَ الباقون ، ولا استكانوا ؛ لقَتْل من قُتِل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدوهم ، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك .
وحُجَّة هذه القراءة أنّ المقصودَ من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياءِ ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم . والمعنى على القراءة الثانية - : وكم من نبي قاتل معه العددُ الكثيرُ من أصحابه ، فأصابهم من عدوهم قروح ، فما وَهَنُوا ؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللهِ وطاعته ، وإقامة دينه ، ونصرة رسوله ، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمةَ مُحَمدٍ .
وحجة هذه القراءة : أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال ، فوجب أن يكون المذكورُ هو القتال ، وأيضاً رُوِي عن سعيد بن جبيرٍ أنه قال : ما سمعنا بنبي قُتِل في القتال{[6046]} . قوله : { فَمَا وَهَنُواْ } الضمير في " وَهَنُوا " يعود على الربِّيِّين بجُمْلتهم ، إن كان قُتِل مسنداً إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وكذا في قراءة " قَاتَلَ " سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي ، أو إلى الربِّيين ، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة " قاتل " .
والجمهورُ على " وَهَنُوا " - بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها ، وهما لغتانِ : وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة : وهْنوا - بسكون الهاء{[6047]} - وهو من تخفيف فَعَل ؛ لأنه حرف حلق ، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد .
قال القرطبيُّ : - عن أبي زيد - : " وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً ، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه : ضعَّفته ، والواهنة : أسفل الأضلاع وقصارَاها ، والوَهْن من الإبل : الكثيف ، والوَهْن : ساعة تمضي من الليل ، وكذلك المَوْهِن ، وأوهَنَّا : صِرْنا في تلك الساعة " .
و { لِمَآ أَصَابَهُمْ } متعلق ب " وَهَنُوا " و " ما " يجوز أن تكون موصولة اسمية ، أو مصدرية ، أو نكرة موصوفة .
وقرأ الجمهور { وَمَا ضَعُفُواْ } - بضم العين - وقرئ : ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة .
قوله : { وَمَا اسْتَكَانُواْ } فيه ثلاثةُ أقوالٍ :
أحدها : أنه " استفعل " من الكَوْن - والكَوْن : الذُّلّ - وأصله : استكون ، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً .
وقال الأزهريُّ وأبو علي : هو من قول العربِ : بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي : بحالة سوء ، فألفه - على هذا من ياء ، والأصل : استكْيَن ، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها . [ وهو القول الثاني ] {[6048]} .
الثالث : قال الفرّاء : وزنة " افتعل " من السكون ، وإنما أُشْبِعَت الفتحة ، فتولَّد منها ألف .
أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ *** الشَّائِلاَتِ عُقَدِ الأذْنَابِ{[6049]}
ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ ، نحو : استكان ، يستكين ، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً . وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ .
وكلاهما لا يلزمه ؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي- .
وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم ؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة ، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة ، قالوا : تَمَنْدَلَ ، يَتَمَنْدَلُ ، تَمَنْدُلاً ، فهو مُتَمَنْدِل ، ومُتَمَنْدَل به . وكذلك تَمَدْرَع ، وهما من الندل والدرع .
وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ ؛ فإنه قال : " لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول : استكان ، يستكين ، استكانة ، فهو مستكين ، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد " .
ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ : فما ضَعُفُوا عن كذا ، وما استكانوا لكذا - للعلم ، أو للاقتصار على الفعلين – نحو { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ } [ الحاقة : 24 ] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما .
وقال الزمخشري : ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ .
وقيل : ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم .
المعنى : ما جَبُنُوا لما أصابهم في سبيل اللهِ ، وما ضَعُفُوا عن الجهادِ بما نالهم من الجراح ، وما استكانوا للعدو{[6050]} .
وقال مقاتلٌ : وما استسْلَموا ، وما خضعوا لعدوهم {[6051]} .
وقال السُّدِّيُّ : وما ذلوا{[6052]} . وهذا تعريض بما أصابهم من الْوَهَنِ ، والانكسار عند الإرجاف بقَتْل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين ، واستكانتهم للكافرين ، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبَيٍّ ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان .
ويحتمل - أيضاً - أن يُفَسَّر الوهن باستيلاء الخوفِ عليهم ، ويُفَسَّر الضعف بأن يضعف إيمانُهم ، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم ، والاستكانة : هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم .
ثم قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } أي : مَنْ صَبَر على تحمُّل الشدائدِ في طريق اللهِ ولم يُظْهِر الجزعَ والعجزَ والهلع ؛ فإنَّ اللهَ يحبه . ومحبة الله - تعالى - للعبد عبارة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه ، والحكم له بالثواب والجنة .