" ما " نافية ، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني : على لغة الحجازيين والتميميِّين ؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط ، منها : ألا يَنْتَقضَ النفي ب " إلا " إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب " ليس " في نفي الحال - فيكون " مُحَمَّدٌ " مبتدأ ، و " رَسُولٌ " خبر{[6001]} .
هذا - [ أعني : إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها ]{[6002]} - مذهب الجمهور ، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب " إلا " .
وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ *** وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا{[6003]}
فنصب " منجنوناً " ، و " مُعَذَّباً " على خبر " ما " - وهما بعد " إلا " - .
وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً *** وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا{[6004]}
ف " حق " اسم " ما " و " نكالا " خبرها .
وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف ، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ ، والتقدير : وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ " دَوَرَانَ " ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب ، وكذا : " إلا مُعَذَّباً " تقديره : يُعَذَّبُ تعذيباً ، فحُذِف الفعلُ ، وأقيم " معذَّباً " مقام " تَعْذِيب " ، كقوله تعالى : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : كل تمزيق . وكذا : " إلا نَكَالاً " ، وفيه من التكلُّف ما ترى .
و " مُحَمَّدٌ " هو المستغرق لجميع المحامد ؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل ، والتحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال . وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد .
قال أهل اللغة : كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى " محمداً " .
قوله : { قَدْ خَلَتْ } في هذه الجملة وجهان :
أظهرهما : أنها في محل رفع ؛ صفة لِ " رَسُولٌ " .
الثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في " رَسُولٌ " ، وفيه نظر ؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد ، فلا تتحمل ضميراً .
قوله : " من قبله " فيه وجهان – أيضاً- :
والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ ؛ حال من " الرُّسُلُ " مقدَّماً عليها ، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة ؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة .
وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ " رُسُلٌ " – بالتنكير-{[6005]} .
قال أبُو الفَتْحِ : ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد ، كقوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] .
وقوله : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .
وقال أبُو البَقَاءِ{[6006]} : " وهو قريب من معنى " المعرفة " . كأنه يريد أن المراد بالرسل " الجنس " ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية " .
وقراءة الجمهور أولى ؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم .
قال أبو علي : والرسول جاء على ضربين :
والآخر : الرسالة ، وهاهنا المراد منه " المُرْسَل " ، كقوله تعالى : { إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ يس : 3 ] وقوله : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ } [ المائدة : 67 ] و " فعول " قد يراد به : المفعول ، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب ، والرسول بمعنى الرسالة .
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم *** بِسِرٍّ ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ{[6007]}
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي : لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة ، ورأى ظهورَهم خاليةً ، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين ، ثم حمل على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم من خلفهم - ، فهزموهم ، وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَجَر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشُجَّ في وجهه ، فأثقله ، وتفرق عنه أصحابُه ؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة ، فنهض حتى استوى عليها فقال صلى الله عليه وسلم أوْجَبَ طَلْحَةُ ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف ، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك ، وأعطتها وَحْشِيًّا ، ونقرت عن كبد حمزة ، فلاكتها ، فلم تَستسغها ، فلفظَتْها ، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فقتله ابنُ قَمِئة ، وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرجع ، وقال : إني قتلتُ محمداً ، وصاح صارخ : ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل : إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناسَ : إليَّ عباد الله ، إليَّ عباد الله ، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً ، فحَمَوْه حتى كشفوا عنه المشركين ، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه ، ومثل له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال : ارْمِ فداكَ أبي وأمي ، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً ، شديد النزع ، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة ، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ ، فيقول : انثرها لأبي طلحة ، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نَبْلِهِ ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست ، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ ، حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانَها ، فعادت كأحسن ما كانت ، فلما انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ ، وهو يقول : لا نجوتُ إن نَجَا ، فقال القوم : يا رسولَ الله ، ألا يعطف عليه رجل منا ؟ فقال : صلى الله عليه وسلم : دَعُوه ، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْل ذلك ، قال له : عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة ؛ أقتلك عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم : بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة ، ثم استقبله فطعنه في عنقه ، وخدشه خدشة ، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول : قتلني محمد ، وحمله أصحابه ، وقالوا : ليس بك من بأس ، فقال : أليس قال لي : أقتلك ؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له : سرف{[6008]} .
قال ابن عباس : اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه ، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال : وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين : يا ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم .
وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك : يا قوم ، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، قوموا ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني : المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني : المنافقين - ثم شد بسيفه ، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك ، وقال : عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا ؛ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليَّ أن أسْكُتَ ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النَّبيُّ على الفرار . فقالوا : يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا ، فولَّينَا مُدْبِرِين ، فأنزل الله قوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ }{[6009]} .
قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ } الهمزة لاستفهام الإنكار ، والفاء للعطف ، ورتبتها التقديم ؛ لأنها حرف عطف ، وإنما قُدِّمت الهمزة ؛ لأن لها صَدر الكلام ، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها .
قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ : " الأوجه : أن يقدر محذوف بعد الهمزة ، وقبل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه ، ولو صُرِّحَ به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم .
وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة ؛ فإنه قال : الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى " التسبيب " ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله ، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه " .
فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله : { قَدْ خَلَتْ } من غير تقدير جملة أخرى .
وقال أبو البقاء قريباً من هذا ؛ فإنه قال : " الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله " .
لا يقال : إنه جعل الهمزة في موضعها ، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها ؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس ؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط ، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره .
و " إن " شرطية ، و " مَاتَ " و " انْقَلَبْتُمْ " شرط وجزاء ، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها .
وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط ، وإنما هو المستفْهَم عنه ، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً ، فينوى به التقرير ، وحينئذ لا يكون جواباً ، بل الجواب محذوف ، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً ، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ ، ولا اعتبار بالشعر ؛ فإنه ضرورة ، فلا يجوز عنده أن تقول : إن تكرمني أكرمك ولا يجزمهما ، ولا بجزم الأول ورفع الثاني ، لأن الشرط مضارع . ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك ؛ لأنه ليس الجواب ، بل دال عليه ، والنية به التقديم ، فإن رفعت " أكرمك " وقلت : أإن أكرمتني أكرمك ، صح عنده .
فالتقدير عند يونس : أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته ، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين ؛ فإنهم يقولون : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد ؟
وقال أبو البقاء : " وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط ، تقديره : أتنقلبون إن مات ؟ لأن الغرض التنبيه ، أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط " .
ومذهب سيبويه الحقُّ ؛ لوجهَيْن :
أحدهما : أنك لو قدمتَ الجواب ، لم يكن للفاء وجه ؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزورني فإن زرتك . ومنه قوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] .
والثاني : أنَّ الهمزة لها صدر الكلام ، و " إنْ " لها صدر الكلام ، وقد وقعا في موضعهما ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ ؛ لأنهما كالشيء الواحد .
وقد رد النحويون على يونس بقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] ، فإنَّ الفاء في قوله : " فَهُمْ " تعين أن يكون جواباً للشرط ، وأتى - هنا - ب " إن " التي تقتضي الشك ، والموت أمر محقق ، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه ؛ للتردد بين الموت والقتل .
فإن قيل : إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم لا يُقْتَل ، قال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وقال : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، وإذا عُلِم أنه لا يقتل ، فلِمَ قال : ( أو قتل ) ؟
أحدها : أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها ؛ فإنك تقول : إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة ، وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] فهذا حَقٌّ ، مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد .
الثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام ؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه ، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل ، ولم يرجعوا عن دينه ، فكذا هنا .
وثالثها : أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه ، لأنه لا فارق بين الأمرين ، فلما رجع إلى هذا المعنى ، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين ، وهَمُّوا بالارتداد .
فإن قيل : قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } شكٌّ ، وهو - على الله تعالى - محال .
فالجواب : أن المراد : أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك ، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد .
قوله : { انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : صرتم كُفاراً بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه ، فانقلب على عقبه ، ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل ، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل ، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم .
فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين :
أحدهما : القياس على موت سائر الأنبياء .
والثاني : أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين ، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه ، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين .
قوله : { عَلَى أَعْقَابِكُمْ } فيه وجهان :
أظهرهما : أنه متعلق ب " انْقَلَبْتُمْ " .
والثاني : أنه حال من فاعل " انْقَلَبْتُمْ " ، كأنه قيل : انقلبتم راجعين .
قوله : { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ } .
قرأ ابنُ أبي إسحاق " على عقبه " - بالإفراد{[6010]} ، و " شَيْئاً " نصب على المصدر أي : شيئاً من الضرر ، لا قليلاً ولا كثيراً . والمراد منه : تأكيد الوعيد ، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً ، وإنما يضر نفسه .
ثم قال : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } والمعنى : أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم ، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى .
رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي - رضي الله عنه - أنه قال المراد بقوله تعالى : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } : أبو بكر وأصحابه . وروى عنه أيضاً أنه قال : أبو بكر أمين الشاكرين ، وأمين الله تعالى .