اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٞ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰٓ أَعۡقَٰبِكُمۡۚ وَمَن يَنقَلِبۡ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيۡـٔٗاۚ وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ} (144)

" ما " نافية ، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني : على لغة الحجازيين والتميميِّين ؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط ، منها : ألا يَنْتَقضَ النفي ب " إلا " إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب " ليس " في نفي الحال - فيكون " مُحَمَّدٌ " مبتدأ ، و " رَسُولٌ " خبر{[6001]} .

هذا - [ أعني : إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها ]{[6002]} - مذهب الجمهور ، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب " إلا " .

وأنشد : [ الطويل ]

وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ *** وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا{[6003]}

فنصب " منجنوناً " ، و " مُعَذَّباً " على خبر " ما " - وهما بعد " إلا " - .

ومثله قول الآخر : [ الوافر ]

وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً *** وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا{[6004]}

ف " حق " اسم " ما " و " نكالا " خبرها .

وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف ، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ ، والتقدير : وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ " دَوَرَانَ " ثم حُذِفَ المضافُ ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب ، وكذا : " إلا مُعَذَّباً " تقديره : يُعَذَّبُ تعذيباً ، فحُذِف الفعلُ ، وأقيم " معذَّباً " مقام " تَعْذِيب " ، كقوله تعالى : { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] أي : كل تمزيق . وكذا : " إلا نَكَالاً " ، وفيه من التكلُّف ما ترى .

و " مُحَمَّدٌ " هو المستغرق لجميع المحامد ؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل ، والتحميد فوق الحمد ، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال . وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد .

قال أهل اللغة : كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى " محمداً " .

قوله : { قَدْ خَلَتْ } في هذه الجملة وجهان :

أظهرهما : أنها في محل رفع ؛ صفة لِ " رَسُولٌ " .

الثاني : أنها في محل نصب على الحال من الضمير المستكن في " رَسُولٌ " ، وفيه نظر ؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد ، فلا تتحمل ضميراً .

قوله : " من قبله " فيه وجهان – أيضاً- :

أحدهما : أنه معلق ب " خلت " .

والثاني : أنه متعلق بمحذوفٍ ؛ حال من " الرُّسُلُ " مقدَّماً عليها ، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة ؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة .

وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ " رُسُلٌ " – بالتنكير-{[6005]} .

قال أبُو الفَتْحِ : ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك ، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد ، كقوله : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [ سبأ : 13 ] .

وقوله : { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] .

وقال أبُو البَقَاءِ{[6006]} : " وهو قريب من معنى " المعرفة " . كأنه يريد أن المراد بالرسل " الجنس " ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية " .

وقراءة الجمهور أولى ؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم .

قال أبو علي : والرسول جاء على ضربين :

أحدهما : أن يراد به المرسل .

والآخر : الرسالة ، وهاهنا المراد منه " المُرْسَل " ، كقوله تعالى : { إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ يس : 3 ] وقوله : { يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ } [ المائدة : 67 ] و " فعول " قد يراد به : المفعول ، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب ، والرسول بمعنى الرسالة .

كقوله : [ الطويل ]

لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم *** بِسِرٍّ ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ{[6007]}

فصل

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي : لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة ، ورأى ظهورَهم خاليةً ، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين ، ثم حمل على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم من خلفهم - ، فهزموهم ، وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحَجَر ، فكسر أنفه ورباعيته ، وشُجَّ في وجهه ، فأثقله ، وتفرق عنه أصحابُه ؛ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع ، فجلس تحته طلحة ، فنهض حتى استوى عليها فقال صلى الله عليه وسلم أوْجَبَ طَلْحَةُ ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف ، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك ، وأعطتها وَحْشِيًّا ، ونقرت عن كبد حمزة ، فلاكتها ، فلم تَستسغها ، فلفظَتْها ، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صلى الله عليه وسلم فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب راية النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، فقتله ابنُ قَمِئة ، وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فرجع ، وقال : إني قتلتُ محمداً ، وصاح صارخ : ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل : إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناسَ : إليَّ عباد الله ، إليَّ عباد الله ، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً ، فحَمَوْه حتى كشفوا عنه المشركين ، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه ، ومثل له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كنانته فقال : ارْمِ فداكَ أبي وأمي ، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً ، شديد النزع ، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة ، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ ، فيقول : انثرها لأبي طلحة ، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صلى الله عليه وسلم فينظر إلى موضع نَبْلِهِ ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست ، وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ ، حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانَها ، فعادت كأحسن ما كانت ، فلما انصرف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ ، وهو يقول : لا نجوتُ إن نَجَا ، فقال القوم : يا رسولَ الله ، ألا يعطف عليه رجل منا ؟ فقال : صلى الله عليه وسلم : دَعُوه ، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبْل ذلك ، قال له : عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة ؛ أقتلك عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم : بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة ، ثم استقبله فطعنه في عنقه ، وخدشه خدشة ، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول : قتلني محمد ، وحمله أصحابه ، وقالوا : ليس بك من بأس ، فقال : أليس قال لي : أقتلك ؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له : سرف{[6008]} .

قال ابن عباس : اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه ، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال : وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين : يا ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان ، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم .

وقال أناس من أهل النفاق : إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك : يا قوم ، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله ، قوموا ، فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه ، ثم قال : اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني : المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني : المنافقين - ثم شد بسيفه ، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك ، وقال : عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين ، أبشروا ؛ هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليَّ أن أسْكُتَ ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النَّبيُّ على الفرار . فقالوا : يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا ، فولَّينَا مُدْبِرِين ، فأنزل الله قوله : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ }{[6009]} .

قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ } الهمزة لاستفهام الإنكار ، والفاء للعطف ، ورتبتها التقديم ؛ لأنها حرف عطف ، وإنما قُدِّمت الهمزة ؛ لأن لها صَدر الكلام ، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها .

قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ : " الأوجه : أن يقدر محذوف بعد الهمزة ، وقبل الفاء ، تكون الفاء عاطفة عليه ، ولو صُرِّحَ به لقيل : أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم ، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم .

وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة ؛ فإنه قال : الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى " التسبيب " ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله ، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صلى الله عليه وسلم لا للانقلاب عنه " .

فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله : { قَدْ خَلَتْ } من غير تقدير جملة أخرى .

وقال أبو البقاء قريباً من هذا ؛ فإنه قال : " الهمزة عند سيبويه في موضعها ، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله " .

لا يقال : إنه جعل الهمزة في موضعها ، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها ؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس ؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط ، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره .

و " إن " شرطية ، و " مَاتَ " و " انْقَلَبْتُمْ " شرط وجزاء ، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها .

وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط ، وإنما هو المستفْهَم عنه ، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً ، فينوى به التقرير ، وحينئذ لا يكون جواباً ، بل الجواب محذوف ، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً ، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ ، ولا اعتبار بالشعر ؛ فإنه ضرورة ، فلا يجوز عنده أن تقول : إن تكرمني أكرمك ولا يجزمهما ، ولا بجزم الأول ورفع الثاني ، لأن الشرط مضارع . ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك ؛ لأنه ليس الجواب ، بل دال عليه ، والنية به التقديم ، فإن رفعت " أكرمك " وقلت : أإن أكرمتني أكرمك ، صح عنده .

فالتقدير عند يونس : أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته ، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين ؛ فإنهم يقولون : ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها ؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد ؟

وقال أبو البقاء : " وقال يونس : الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط ، تقديره : أتنقلبون إن مات ؟ لأن الغرض التنبيه ، أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط " .

ومذهب سيبويه الحقُّ ؛ لوجهَيْن :

أحدهما : أنك لو قدمتَ الجواب ، لم يكن للفاء وجه ؛ إذ لا يصح أن تقول : أتزورني فإن زرتك . ومنه قوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] .

والثاني : أنَّ الهمزة لها صدر الكلام ، و " إنْ " لها صدر الكلام ، وقد وقعا في موضعهما ، والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ ؛ لأنهما كالشيء الواحد .

وقد رد النحويون على يونس بقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] ، فإنَّ الفاء في قوله : " فَهُمْ " تعين أن يكون جواباً للشرط ، وأتى - هنا - ب " إن " التي تقتضي الشك ، والموت أمر محقق ، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه ؛ للتردد بين الموت والقتل .

فإن قيل : إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صلى الله عليه وسلم لا يُقْتَل ، قال : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] وقال : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [ المائدة : 67 ] وقال : { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ } [ التوبة : 33 ] ، وإذا عُلِم أنه لا يقتل ، فلِمَ قال : ( أو قتل ) ؟

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها ؛ فإنك تقول : إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين ، فالشرطية صادقة ، وجزآها كاذبان ، وقال تعالى : { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا } [ الأنبياء : 22 ] فهذا حَقٌّ ، مع أنه ليس فيهما آلهة ، وليس فيهما فساد .

الثاني : أن هذا ورد على سبيل الإلزام ؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه ، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل ، ولم يرجعوا عن دينه ، فكذا هنا .

وثالثها : أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه ، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه ، لأنه لا فارق بين الأمرين ، فلما رجع إلى هذا المعنى ، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين ، وهَمُّوا بالارتداد .

فإن قيل : قوله : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } شكٌّ ، وهو - على الله تعالى - محال .

فالجواب : أن المراد : أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك ، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد .

فصل

قوله : { انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي : صرتم كُفاراً بعد إيمانكم ، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه : رجع وراءه ، فانقلب على عقبه ، ونكص على عقبيه ، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم ، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل ، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل ، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم .

فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين :

أحدهما : القياس على موت سائر الأنبياء .

والثاني : أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين ، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه ، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين .

قوله : { عَلَى أَعْقَابِكُمْ } فيه وجهان :

أظهرهما : أنه متعلق ب " انْقَلَبْتُمْ " .

والثاني : أنه حال من فاعل " انْقَلَبْتُمْ " ، كأنه قيل : انقلبتم راجعين .

قوله : { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ } .

قرأ ابنُ أبي إسحاق " على عقبه " - بالإفراد{[6010]} ، و " شَيْئاً " نصب على المصدر أي : شيئاً من الضرر ، لا قليلاً ولا كثيراً . والمراد منه : تأكيد الوعيد ، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً ، وإنما يضر نفسه .

ثم قال : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } والمعنى : أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم ، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين ، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى .

رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي - رضي الله عنه - أنه قال المراد بقوله تعالى : { وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ } : أبو بكر وأصحابه . وروى عنه أيضاً أنه قال : أبو بكر أمين الشاكرين ، وأمين الله تعالى .


[6001]:هذا أحد المواضع التي يتقدم فيها المبتدأ ويتأخر الخبر وجوبا وحاصلها خمسة مواضع. أولها: أن يخاف التباسه بالمبتدأ، وذلك إذا كانا معرفتين أو نكرتين متساويين في التخصيص (أي كل منهما صالحة لجعلها مبتدأ) ولا قرينة تميز أحدهما من الآخر؛ فالمعرفتان نحو: (سرورنا غم أغداءنا) و(صديقي علي) فلو قدمت الخبر يصير التركيب هكذا (غم أعدائنا سرورنا) و(علي صديقي) لتوهم أنه مبتدأ وعلى ذلك يكون للجملة معنى غير المعنى الأول. واعلم أن المراد بتعريفهما: ما يشمل المتحدين في النوع والمختلفين فيه، فالأول نحو: (صديق زيد صديق عمرو) والثاني نحو: (محمد الأكرم –وأنت الأفضل) فكل منهما صالح لأن يخبر به وعنه، فإنك لو قلت: أحمد أخي، وقدمت أخي على أحمد، لصح ذلك، إلا أن المعنى يختلف باختلاف الفرض، فإذا كان والمخاطب يعرف أحمد بعينه واسمه، لكنه يجهل اتصافه بأنه أخوك قلت له: أحمد أخي لا غير ذلك تقول. أما إذا كان يعرف أن لك أخا غير أنه يجهل عينه واسمه، قلت له: -أحمد أخي لا غير ذلك تقول. أما إذا كان يعرف أن لك أخا غير أنه يجهل عينه واسمه، قلت له أخي أحمد- وكذا الحال في المثال المتقدم؛ فإنه لا يكون على ما ذكر من الترتيب، إلا إذا كان يعرف مخاطبك أن لك صديقا ويجهل اسمه، فإذا كان يعلم اسمه دون صداقته عكست له ذلك الترتيب وقلت: علي صديقي، فالمجهول للمخاطب هو الذي يجعل خبرا في مثل ذلك، هذا هو المشهور، وبعضهم يجوز التأخير فيجعل الجزء الثاني مما تقدم من الأمثلة مبتدأ مؤخرا، مع جواز أن يكون خبرا. وبعضهم ينظر إلى الأعم منهما فما كان أعم جعل خبرا، نحو "زيد صديقه" إذا كان له أصدقاء غيره. وبعضهم يرى: أن الأعرف هو المبتدأ وغيره الخبر (كأنتم الذين أحسنتم) ما عدا اسم الإشارة مع معرفة أخرى فإنه يتعين للابتدائية لمكان حرف التنبيه، وإن كانت المعرفة الأخرى أعرف منه، تقدم إلا مع الضمير، فإنه يتعين جعل الضمير مبتدأ وإدخال حرف التنبيه عليه فتقول: (ها أنذا) وقد سمع (هذا أنا). وبعضهم ينظر إلى جمودهما واشتقاقهما؛ فالجامد هو المبتدأ والخبر المشتق تقدم أو تأخر، نحو: (القائم زيد) وأما النكرتان المتساويتان فنحو: (أفضل منك أفضل مني) أي لكوني دونك أو مساويك هذا عند عدم القرينة، أما إذا وجدت فالحكم لها، نحو: (رجل صالح حاضر) ففي هذا المثال قرينة لفظية هي الصفة، فإنها قاضية بأن النكرة الموصوفة مبتدأ، متقدمة كانت أو متأخرة. كما لا يجب تأخير الخبر في هذا ونحوه؛ لوجود القرينة اللفظية، كذلك لا يجب مع وجود القرينة المعنوية، نحو: أبو يوسف أبو حنيفة. فإن القرينة المعنوية وهي التشبيه الحقيقي قاضية بأن (أبو يوسف) ميتدأ؛ لأنه مشبه وأبو حنيفة الخبر؛ لأنه مشبه به تقدم أو تأخر؛ ومن ذلك قول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا *** بنوهن أبناء الرجال الأباعد فإن قرينة التشبيه الحقيق حاكمة بأن بني الأبناء مشبهون بالأبناء في محبتهم والعطف عليهم فبنو أبنائنا مبتدأ مؤخر، وبنونا خبر مقدم أي بنو أبنائنا مثل بنينا هذا على حقيقة التشبيه ويضعف أن يكون على التشبيه المقلوب للمبالغة لأن التشبيه المقلوب أمر نادر لوا يحمل على النادر إلا اضطرارا. ثانيها: أن يخاف التباس المبتدأ بالفاعل وذلك إذا كان الخبر فلعا مسندا لضمير المبتدأ المستتر بمعنى أن يكون فاعل ذلك الفعل ليس له صورة في اللفظ بل يكون ضميرا مستترا، نحو: (محمد قام، أو يقوم) فلو تقدم الخبر فيهما لالتبس المبتدأ بالفاعل وحينئذ تكون الجملة فعلية لا اسمية، ولا شك أنهما مختلفتان، فالاسمية تفيد الدوام والثبوت. والفعلية تفيد التجرد والحدوث. أما إذا كان الخبر مسندا لفاعل له صورة في اللفظ، بأن كان فاعله ضميرا بارزا أو اسما ظاهرا، نحو: "المجلدان نجحا –الصالحون فازوا" جاز التقديم فتقول: نجحا المجدان فازوا الصالحون للأمن من المحذور المذكور، إلا على لغة: أكلوني البراغيث، ووجود اللبس على هذه اللغة لا يمنع من تقديم الخبر؛ لأن تقديمه أكثر من هذه اللغة، وأيضا فهو لا يحمل عليها لذلك، وإن لتقديم الخبر في ذلك أكثر من كون الظاهر بدلا من الضمير؛ ولهذا قالوا في قوله تعالى: {ثم عموا وصموا كثير منهم} وفي قوله: {وأسروا النجوى الذين ظلموا} أن كثير والذين مبتدآن مؤخران لا بدلان. واعلم أن بعضهم قد ذهب إلى أن الوصف بعد المبتدأ المسبوق بنفي أو استفهام كالفعل الممتنع تقديمه، نحو: "ما زيد قائم" و"هل محمد منطلق"؛ لأنه لو قدم لحصل لبس أيضا وهو غير صحيح، لتصريحهم بجواز التقديم في مثله، وأن اللبس فيه ليس مثل ذلك لأن تقديم الخبر إذا كان فعلا يخرج الجملة من الاسمية إلى الفعلية بخلاف الوصف. ثالثها: أن يقترن الخبر بـ "إلا" معنى، نحو: إنما العالم محب لدينه. إذ التقدير ما العالم إلا محب لدينه، ويستشهد لذلك بما جاء في الكتاب العزيز من نحو قوله تعالى: {إنما أنت منذر} أي ما أنت إلا منذر أو لفظا، نحو: (وما محمد إلا رسول)، (إن أنت إلا نذير). وذلكلأنه لو قدم هنا لانعكس المراد وأفاد انحصار الخبر في المبتدأ والغرض خلاف ذلك وأما قول الشاعر: فيا رب هل إلا بك النصر يرتجى *** عليهم وهل إلا عليك المعول فضرورة أو شاذ لا يعول عليه لأن فيه تقديم الخبر المحصور بـ "إلا" في قوله بك النصر –عليك المعول. ولقد كان من واجبه أن يقول هل النصر يرتجى إلا بك وهل المعول إلا عليك. رابعها: أن تدخل على المبتدأ لام الابتداء نحو (لمحمد صلى الله عليه وسلم علم الهدى) ونحو (لزيد قائم) فيجب في هذا ونحوه تقديم المبتدأ وتأخير الخبر لأن لام الإبتداء ملازمة لصدر الكلام فكذلك ما اقترن بها. وأما قول الشاعر: خالي لأنت ومن جرير خاله *** ينل العلاء ويكرم الأخوالا خامسها: أن يكون المبتدأ مستحثا للتصدير (إما بنفسه) بأن يكون له صدر الكلام كـ "ما" التعجبية نحو (ما أحسن الإخلاص) وأسماء الاستفهام، نحو (من فاز في الامتحان؟) وأسماء الشرط نحو (من يرحمني يرحمه الله) وكم الخبرية نحو (كم جنيه عندي) وضمير الشأن نحو (هو الله يفعل ما يشاء) وكذا كل ما أشبهه من كل ما أخبر عنه بجملة هي عينه في المعنى نحو (نطقي الله حسبي). (وإما بغيره) إما متقدم عليه وهو ما اقترن بلام ال
[6002]:سقط في أ.
[6003]:تقدم برقم 642.
[6004]:البيت لمغلس بن لقيط ينظر في تخليص الشواهد ص 282، والجني الداني ص 325، والمقاصد النحوية 2/148، والدرر 2/100، وهمع الهوامع 1/123، والدر المصون 2/221.
[6005]:ونسبها ابن عطية في المحرر 1/516 إلى مصحف ابن مسعود قال: وهي قراءة حطان بن عبد الله. وينظر: البحر المحيط 3/74، وفيه أنها قراءة ابن عباس وقحطان ابن عبد الله، فليحرر. وينظر: الدر المصون 2/221.
[6006]:ينظر: الإملاء 1/151.
[6007]:تقدم برقم 651.
[6008]:تقدم متفرقا في أحاديث.
[6009]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (7/255- 256) عن السدي وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/144) وعزاه للطبري وحده.
[6010]:ينظر: البحر المحيط 3/75، والدر المصون 2/222.