{ أَنْ تَمُوتَ } في محل رفع ؛ اسماً ل " كان " ، و " لِنَفْسٍ " خبر مقدَّم فيتعلق بمحذوف ، و{ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } حال من الضمير في " تَمُوتَ " ، فيتعلق بمحذوف ، وهو استثناء مفرَّغ ، والتقدير : وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها ، والباء للمصاحبة .
وقال أبُو البَقَاءِ : { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } الخبر ، واللام للتبيين ، متعلِّقة ب " كان "
. وقيل : هي متعلقة بمحذوف ، تقديره : الموت لنفس ، و " أنْ تَمُوتَ " تبيين للمحذوف ، ولا يجوز أن تتعلق اللام ب " تَمُوتَ " لما فيه من تقديم الصلة على الموصول .
وقال بعضهم : إن " كَانَ " زائدة ، فيكون " أن تموت " مبتدأ ، و " لنفس " خبره .
وقال الزجاج : اللام منقولة ، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام ، فجعل ما كان اسماً ل " كان " - وهو ( أن تَموتَ ) - خبراً لها ، وما كان خبراً - وهو " لِنَفْسٍ " - اسماً لها ، فهذه خمسة أقوال ، أظهرها : الأول .
أما قول أبي البقاء : واللام للتبيين ، فتتعلق بمحذوف ، ففيه نظر من وجهين :
أحدهما : أنَّ " كان " الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها ، ولئن سُلِّم ذلك ، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف ، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو : سَقْياً لك .
وقيل : إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز .
أما مَنْ جعل " لِنَفْسٍ " متعلقة بمحذوف - تقديره : الموت لنفس ، ففاسدٌ ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز ؛ لأنه إن جعل " كَانَ " تامة ، أو ناقصة ، امتنع حذفُ مرفوعها ، لأن الفاعل لا يُحْذَف . وكذلك قول مَنْ جعل " كان " زائدة .
أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى ، لا تفسير إعراب .
في تعلُّق هذه الآية بما قبلَها وجوه :
أحدها : أن المنافقين حين قالوا : إن محمداً قُتِل ، فقال تعالى : لا تموت نفس إلا بإذن الله ، فقتله - أيضاً - مثل موته لا يحصل إلا في الوقت المقدَّر له ، فكما أن موته في داره لا يدل على فساد دينه ، كذلك إذا قُتِل لا يؤثر ذلك في فساد دينه .
والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضَعَفَةِ المسلمين : إن كان محمدٌ قُتِل فارجعوا إلى دينكم الأول .
والثاني : أن المراد : تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذرَ لا يدفَع القدر ، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل ، وإذا جاء الأجل لا يندفع ، فلا فائدة في الجُبْن والخوف .
والثالث : أن المراد حِفْظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم من تلك الواقعة المخوفة ؛ فإنه لم يَبْقَ سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل ، ولكن لما كان الله حافِظَه وناصِرَه ما ضَرَّه شيءٌ من ذلك ، وفيه تنبيه على أن الصحابة قصَّروا في الذَّبِّ عنه .
ورابعها : أن المقصود منه الجواب عن كلام المنافقين للصحابة ، حين رجعوا وقد قتل منهم من قتل { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } [ آل عمران : 156 ] فأخبر - تعالى - أنَّ الموت والقتل لا يكونان إلا بإذن الله .
قوله : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ آل عمران : 145 ] ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه ، أو يعين في تقوية الكُفْر ، بل يُبْقيه الله إلى أن يَظْهَرَ على الدِّين كله .
قال القُرْطُبِي : " هذا حضٌّ على الجهاد ، وإعلام بأن الموت ، لا بد منه لكل إنسان وأن كل إنسان - مقتولاً كان أو غيرَ مقتول - مَيِّت إذا بلغ أجله المتكوبَ له ؛ لأن معنى { مُّؤَجَّلاً } إلى أجل ، ومعنى { بِإِذْنِ الله } : بقضاء الله وقدره " . واختلفوا في الإذن .
قال أبو مسلم : هو الأمر ، أي أن الله - تعالى - يأمر ملك الموت بقبض الأرواح .
وقيل : المراد منه : التكوين والإيجاد ، لأنه لا يقدر على الإماتة والإحياء إلا الله تعالى .
وقيل : الإذن : هو التخلية والإطلاق ، وتَرْك المنع بالقهر والإجبار ، كقوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ } [ البقرة : 102 ] أي : بتخليته بينه وبين قاتله .
وقيل : الإذن بمعنى : العلم ، والمعنى : أن نفساً لن تموتَ إلاَّ في الوقت الذي علم الله - تعالى - موتها فيه .
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ : الإذن : هو قَضَاءُ الله وقدره{[6011]} ؛ فإنه لا يحدث شيء إلاَّ بمشيئته وإرادته - سبحانه وتعالى- .
قوله : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } في نصبه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله ، فعامله مُضْمَر ، تقديره : كتب الله ذلك كتاباً ، نحو قوله تعالى : { صُنْعَ اللَّهِ } [ النمل : 88 ] وقوله : { وَعَدَ اللَّهِ } [ الروم : 6 ] ، وقوله : { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] .
الثاني : أنه منصوب على التمييز ، ذكره ابنُ عطية ، وهذا غير مستقيم ؛ لأن التمييز منقول وغير منقول ، وأقسامه محصورة ، وليس هذا شيئاً منها ، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير ؟
والثالث : أنه منصوب على الإغراء ، والتقدير : الزموا كتاباً مؤجَّلاً ، وآمنوا بالقدر ، وليس المعنى على ذلك .
وقرأ ورش : " مُوجَّلاً " بالواو بدل الهمزة{[6012]} ، وهو قياس تخفيفها .
الكتاب المؤجَّل هو الكتاب المشتمل على الآجال ، ويقال : إنه اللوح المحفوظ{[6013]} ، أي : كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحدٌ على تقديمه وتأخيره ، جاء في الحديث " أنه تعالى قال للقلم : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة{[6014]} .
قال القاضِي : أما الأجل والرزق ، فهما مضافان إلى الله تعالى ، وأمَّا الكُفْرُ والفِسْقُ والإيمان والطاعة ، فكل ذلك مضاف إلى العبد ، فإذا كتب الله ذلك ، فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يُخْرج العبد عن الاختيار .
وجوابه : أنه إذا علم الله من العبد الكفر ، وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر ، فلو أتَى بالإيمان كان ذلك جمعاً بين المتنافيين ؛ لأن العلم بالكفر ، والخبر والصدق عن الكفر - مع عدم الكفر - جمع بين النقيضين ، وهو محال ، وهذا موضِعُ الإلزام .
قال المفسرون : أجل الموت هو الوقت الذي في معلوم الله - تعالى - أن روح الحيِّ تفارق جسده فيه ، ومتى قُتِل العبدُ علمنا أن ذلك أجله ، ولا يصح أن يقال : لو لم يُقْتَل لعاش ، بدليل قوله تعالى : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } [ آل عمران : 145 ] ، وقوله : { إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [ يونس : 49 ] وقوله : { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] ، وقوله : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] .
والمعتزليّ يقول : يتقدَّم الأجل ويتأخّر ، وأن مَنْ قُتِل فإنما يهلك قبل أجله ، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله ، لأنه يجب على القاتل الضمان والدِّيَة ، وهذه الآية رَدٌّ عليهم .
قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا } مبتدأ ، وهي شرطية . وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف المشهور . وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر{[6015]} بخلاف عنه - دال " يُرِد " في الثاء .
وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء " نُؤتِهِ " في الموضعين وَصْلاً ووقفاً .
وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً{[6016]} .
فأما السكون فقالوا : إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون ، وأما الاختلاس ، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة ؛ فإن الأصل : نؤتيه ، فحُذِفَت الياء للجزم ، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض ، فبقيت الهاء على ما كانت عليه .
وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال : إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب .
حكى الكسائي : لَهْ مالٌ ، وبِهْ داء - بسكون الهاء ، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال : إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً ، ليس بشيءٍ ، أمَّا غير بني عقيل ، وبني كلاب ، فنعم لا يوجد ذلك عندهم ، إلا في ضرورة .
لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ *** إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ{[6017]}
وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ *** إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا{[6018]}
بسكونها . وجعل ابن عصفور الضرورة في " البيت الثاني " أحسن منها في " البيت الأول " ، قال : لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها ، فهي جَرْي على الضرورة [ إجراءً ] {[6019]} كاملاً ، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة ، نحو : { يَرْضَهُ لَكُمْ } [ الزمر : 7 ] ، ونحو : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ } [ الأنعام : 90 ] .
وقُرِئ : يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى ، وكذلك : " وسنجزي الشاكرين " بالنون والياء .
نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحُد ؛ طلباً للغنيمة ، { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } يعني : الغنيمة ، قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } قيل : أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جُبَير حتى قُتِلوا ، وهذه الآية - وإن وردت في الجهاد خاصة - عامة في جميع الأعمال ؛ لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب هو القصد والدواعي ، لا ظواهر الأعمال .
ثم قال : " وسنجزي الشاكرين " أي : المؤمنين المطيعين .
عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ . وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أمْرَهُ ، وَلاَ يَأتِيهِ مِنْهَا إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ {[6020]} " وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّما الأعمالُ بالنياتِ ، وإنَّمَا لِكُلُ امرئٍ ما نَوَى ، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِه ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُه إلَى دُنْيَا يُصيبُها ، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا ، فهِجْرَتُه إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه " {[6021]} .