قوله تعالى : { فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون * أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون * قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } وتعلق الآية بما قبلها ظاهر لأنه تعالى بين أن في الوجود قوما يخافون الله ويشفقون في أهليهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى بقوله { فذكر بالقرءان من يخاف وعيد } فحقق من يذكره فوجب التذكير ، وأما الرسول عليه السلام فليس له إلا الإتيان بما أمر به ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في الفاء في قوله { فذكر } قد علم تعلقه بما قبله فحسن ذكره بالفاء .
المسألة الثانية : معنى الفاء في قوله { فما أنت } أيضا قد علم أي أنك لست بكاهن فلا تتغير ولا تتبع أهواءهم ، فإن ذلك سيرة المزور { فذكر } فإنك لست بمزور ، وذلك سبب التذكير .
والآن وقد تلقى الحس سياط العذاب العنيف في الشوط الأول ؛ وتلقى هتاف النعيم الرغيد في الشوط الثاني ؛ وتوفزت بهذا وذلك حساسيته لتلقي الحقائق . . فإن السياق يعاجله بحملة سريعة الإيقاعات . يطارده فيها بالحقائق الصادعة ، ويتعقب وساوسه في مسارب نفسه في صورة استفهامات استنكارية ، وتحديات قوية ، لا يثبت لها الكيان البشري حين تصل إليه من أي طريق :
( فذكر . فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون . أم يقولون : شاعر نتربص به ريب المنون ? قل : تربصوا فإني معكم من المتربصين . أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ? أم يقولون : تقوله ? بل لا يؤمنون . فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين . أم خلقوا من غير شيء ? أم هم الخالقون ? أم خلقوا السماوات والأرض ? بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربك ? أم هم المسيطرون ? أم لهم سلم يستمعون فيه ? فليأت مستمعهم بسلطان مبين . أم له البنات ولكم البنون ? أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون ? أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? أم يريدون كيدا ? فالذين كفروا هم المكيدون . أم لهم إله غير الله ? سبحان الله عما يشركون . وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا : سحاب مركوم ) . .
( فذكر ) . . والخطاب للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ليظل في تذكيره لا يثنيه سوء أدبهم معه ، وسوء اتهامهم له . وقد كانوا يقولون عنه مرة : إنه كاهن . ويقولون عنه مرة : إنه مجنون . ويجمع بين الوصفين عندهم ما كان شائعا بينهم أن الكهان يتلقون عن الشياطين . وأن الشيطان كذلك يتخبط بعض الناس ، فيصابون بالجنون . فالشيطان هو العامل المشترك بين الوصفين : كاهن أو مجنون ! وكان يحملهم على وصف النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بهذا الوصف أو ذاك ، أو بقولهم إنه شاعر أو ساحر . كان يحملهم على هذا كله موقفهم مبهوتين أمام القرآن الكريم المعجز الذي يبدههم بما لم يعهدوا من القول ، وهم أهل القول ! ولما كانوا لا يريدون - لعلة في نفوسهم - أن يعترفوا أنه من عند الله ، فقد احتاجوا أن يعللوا مصدره المتفوق على البشر . فقالوا : إنه من إيحاء الجن أو بمساعدتهم . فصاحبه إما كاهن يتلقى من الجن ، أو ساحر يستعين بهم ، أو شاعر له رئي من الجن ، أو مجنون به مس من الشيطان ينطقه بهذا القول العجيب !
وإنها لقولة فظيعة شنيعة . فالله - سبحانه - يسلي رسوله عنها ، ويصغر من شأنها في نفسه . وهو يشهد له أنه محوط بنعمة ربه ، التي لا تكون معها كهانة ولا جنون : ( فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون ) . .
{ فَذَكّرْ } فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل .
{ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبّكَ بكاهن } هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن ، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك ، والعرّاف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك ، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب ، والباء في { بكاهن } مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن { وَلاَ مَجْنُونٍ } واختلف في باء { بِنِعْمَتِ } فقال أبو البقاء : للملابسة ؛ والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن ، أو مجنون ، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبساً بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه عز وجل ، وقيل : للقسم فنعمة ربك مقسم به ، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو ما أنت بكاهن ولا مجنون وهذا كما تقول : ما زيد والله بقائم وهو بعيد ، والأقرب عندي أن الباء للسببية وهو متعلق بمضمون الكلام ، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله تعالى عليك ، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه ، والمراد الرد على قائل ذلك ، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى الله عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس ، وقيل : الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله ، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون ، وممن قال كاهن : شيبة بن ربيعة ، وممن قال مجنون : عقبة بن أبي معيط .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.