اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ} (29)

قوله تعالى : { فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } لما بين تعالى أن في الوجود قوماً يخافون الله ، ويشفقون في أهلهم والنبي - عليه الصلاة والسلام - مأمور بتذكير من يخاف الله تعالى لقوله تعالى : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } [ ق : 45 ] فوجب التذكير فلذلك ذَكَرَهُ بالفاء{[53210]} .

قوله : «بِنِعْمَةِ رَبِّكَ » فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه مقسم به متوسط بين اسم «ما » وخبرها . ويكون الجواب حينئذ محذوفاً لدلالة هذا المذكور عليه والتقدير : «وَنِعْمَةَ رَبّكَ مَا أَنْتَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ » .

الثاني : أن الباء في موضع نصب على الحال ، والعامل فيها : «بِكَاهِنٍ أوْ مَجْنُون »{[53211]} والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك . قاله أبو البقاء{[53212]} . وعلى هذا فهي حالٌ لازمة ؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يفارق هَذِهِ الحَالَ .

الثالث : أن الباء متعلقة بما دل عليه الكلام وهو اعتراض بين اسم «ما » وخبرها والتقدير : ما أنت في حال أذْكَارِك بنعمةِ ربك بكاهنٍ ولا مجنون . قاله الحوفيّ{[53213]} . قال شهاب الدين : ويظهر وجه رابع وهو أن تكون الباء سببية وتتعلق حينئذ بمضمون الجملة المنفية . وهذا هو مقصود الآية الكريمة . والمعنى انتفى عنك الكَهَانَةُ والجنونُ بسبب نعمةِ الله عليك كما تقول : مَا أَنْتَ بمُعْسِرٍ بحمْدِ اللَّهِ وَغِنائِهِ{[53214]} .

فصل

المعنى «فَذَكِّرْ » يا محمد أهل مكة بالْقُرْآنِ { فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } أي برحمته وعصمته «بِكَاهِنٍ » مبتدع القول ومخبر بما في غد من غير وحي «وَلاَ مَجْنُونٍ » نزلت في الذين اقتسموا عِقَابَ{[53215]} مكة يرمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكَهانةِ والسِّحر والجُنُون والشِّعر{[53216]} .

قوله : «أَمْ يَقُولُونَ » قال الثعلبي : قال الخليل : كل ما في سورة الطور من «أم » فاسْتِفْهَامٌ وليس بِعَطْفٍ{[53217]} .


[53210]:بالمعنى من كلام الرازي 28/255.
[53211]:وهو قول أبي حيان في البحر 8/151 وفي البحر: ما أنت كاهن.
[53212]:التبيان 1184.
[53213]:نقله عند أستاذنا أبو حيان في بحره، المرجع السابق.
[53214]:ذكره في الدر المصون له مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم 113.
[53215]:في البغوي: عقبات وفي الخازن: أعقاب. والعقاب واحدتها عقبة طريق في الجبل وعقاب التي هي أعلى جمع أيضا لعقبة وعقبات جمع أيضا لها، فلا تعارض بين روايات الكتب. وانظر اللسان "عقب" 3028.
[53216]:وانظر البغوي والخازن 6/252.
[53217]:نقله في كتابه أبو حيان في البحر 8/151 و152.