التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{فَذَكِّرۡ فَمَآ أَنتَ بِنِعۡمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٖ وَلَا مَجۡنُونٍ} (29)

/خ29

تعليق على كلمة

كاهن ونسبة الكهانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وكلمة ( كاهن ) ترد هنا لأول مرة . وقد قال بعضهم : إنها عبرانية الأصل وهذا ما يقال في صدد كلمات عديدة غيرها مما مر التنبيه عليه . مع أن الكلمة كانت شائعة مستعملة قبل البعثة مع اشتقاقاتها مثل تكهن وكهانة وتعني التنبؤ بالغيب . وصيغها عربية فصحى ، ولا يرد على هذا جود الكلمة في العبرانية بنفس المعنى . فالعبرانية والعربية من أصل واحد فلا بدع أن تكون جذور الكلمات فيهما مشتركة .

وهي هنا في مقام تكذيب قول الكفار عن النبي إنه كاهن ، وقد وردت في آية في سورة الحاقة في نفس المقام أيضا { ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون 42 }والروايات العربية العديدة تفيد أنه كان يظهر بين العرب قبل الإسلام أشخاص يطلق عليهم هذا الاسم ، وأن الناس كانوا يرجعون إليهم ليستفتوهم في حل بعض مشاكلهم وأحلامهم وكانوا يجيبونهم بالأجوبة المسجعة المطبوعة بطابع من الإلغاز والتعمية والروعة . وكان العرب يعتقدون أن للكهان صلة بالجن يوحون إليهم بالأجوبة ويخبرونهم بأخبار الغيب والسماء . وكان الكهان يسبغون على أنفسهم مظهرا من الخطورة التي تجعل العرب يعتقدون ذلك فيهم .

ولعله كان في بعضهم بعض المواهب والقوى الغامضة إذ ذاك والتي تفسر اليوم بالقوى المغناطيسية والكهربائية وتظهر بمظهر قراءة الأفكار والشعور من البعد والتأثير الروحاني فكانوا يفسرون ذلك بوحي الجن . وقد كان من النساء كاهنات كما كان من الرجال كهان . وقد رويت روايات عديدة عنهم وعن أقوالهم قد يكون فيها صنعة ومبالغة ، ولكن وجود أناس يتسمون باسم الكهان واتصاف الكهان بمثل هذه الصفات أمران لاشك فيهما ؛ لأن ذكر الكهان في القرآن دليل حاسم على ذلك . والظاهر أن العرب رأوا في النبي ودعوته والقرآن الذي يتلوه شيئا مما كان يبدو من الكهان فنسبوا إليه الكهانة فيما نسبوا . وقد نفى القرآن عنه ذلك في هذه السورة ، وفي سورة الحاقة كما نفى عنه السحر والشعر والجنون والاتصال بالجن في آيات عديدة في سور عديدة مرت أمثلة منها نفي تزييف وتنديد وتسخيف .

واقتران النفي هنا بذكر نعمة الله يتضمن توكيد صلة النبي بالله وتسفيه رؤية صورة الكهان وسجعهم فيه وفيما يتلوه كما يتضمن التذكير بأن الكاهن لم يكن بسبيل الدعوة إلى الله وحده ومكارم الأخلاق ومحاربة الشرك و الفساد والآثام ، وبأن قصارى ما عرف عن الكهان أنهم يجولون في نطاق وأفق ضيقين وفي سبيل العيش وليسوا هم بسبيل دعوة عظمى لا يطلب صاحبها عليها أجرا ولا مغنما .

وهناك حديث صحيح رواه مسلم عن أبي هريرة جاء فيه : ( من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد ) {[2031]} . والحديث وإن لم يذكر حكم الكاهن فالمتبادر أنه يشمله ضمنا . وكفر الذي يأتي الكاهن هو كونه جاء إليه ، وهو يعتقد باطلاعه على الغيب وقدرته على النفع والضر . وهذا وذاك من خصائص الله تعالى ويكون الذي يعتقد بذلك في الناس مشركا بدون ريب . والكاهن بنصبه نفسه لهذه المهمة صار أولى أن يتصف بهذا الوصف . والله تعالى أعلم .

هذا ، ولقد روي عن ابن إسحاق أن الكهانة عند الجاهليين كانت بمثابة الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى ، وهذا خطأ فيما هو المتبادر فإن الأحبار والرهبان عند اليهود والنصارى يتصفون بصفة دينية ويمارسون مهامّ دينية في حين أنه لم يرو أحد عن كهان العرب شيئا من ذلك .


[2031]:التاج ج 3 ص 201، ويروي مؤلف التاج صيغة أخرى رواها الإمام أحمد جاء فيها: ( من أتى عرافا فسأله أو كاهنا فصدقه لم تقبل صلاته أربعين ليلة ) وفرق عظيم في الحكم في الصيغتين والأحاديث التي يرويها مسلم هي أصح وأوثق عند علماء الحديث. والله تعالى أعلم.