مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَأَجۡرُ ٱلۡأٓخِرَةِ خَيۡرٞ لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} (57)

ثم قال تعالى : { ولا نضيع أجر المحسنين } وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى ، فكانت الإضاعة ممتنعة .

واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال : إنه كان من المحسنين ، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق .

ثم قال تعالى : { ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } وفيه مسائل :

المسألة الأول : في تفسير هذه الآية قولان :

القول الأول : المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا ، إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل ، وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا ، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعا خالصا دائما مقرونا بالتعظيم ، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ومفقودة في خيرات الدنيا .

القول الثاني : أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخبرين أفضل من الآخر كما يقال : الجلاب خير من الماء وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيرا من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل كما يقال : الثريد خير من الله ، يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله .

إذا ثبت هذا فقوله : { ولأجر الآخرة خير } إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضا ، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضا خيرات ، بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير ، وأما ما سواه فعبث .

المسألة الثانية : لا شك أن المراد من قوله : { ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهذا تنصيص من الله عز وجل . على أنه كان في الزمان السابق من المتقين ، وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه : { ولقد همت به وهم بها } فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين ، وأيضا قوله : { ولا نضيع أجر المحسنين } شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين ، وقوله : { إنه من عبادنا المخلصين } شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت الحشوي يقول : إنه كان من الأخسرين المذنبين ، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين .

المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى : { ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون } يدل على بطلان قول المرجئة : الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر .

قلنا : هذا ضعيف ، لأنا إن حملنا لفظ خير على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلا ، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية ، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير .