مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَقَالَ ٱلۡمَلِكُ ٱئۡتُونِي بِهِۦٓ أَسۡتَخۡلِصۡهُ لِنَفۡسِيۖ فَلَمَّا كَلَّمَهُۥ قَالَ إِنَّكَ ٱلۡيَوۡمَ لَدَيۡنَا مَكِينٌ أَمِينٞ} (54)

قوله تعالى { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : اختلفوا في هذا الملك فمنهم من قال : هو العزيز ، ومنهم من قال : بل هو الريان الذي هو الملك الأكبر ، وهذا هو الأظهر لوجهين : الأول : أن قول يوسف : { اجعلني على خزائن الأرض } يدل عليه . الثاني : أن قوله : { أستخلصه لنفسي } يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له ، وقد كان يوسف عليه السلام قبل ذلك خالصا للعزيز ، فدل هذا على أن هذا الملك هو الملك الأكبر .

المسألة الثانية : ذكروا أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام وهو في الحبس وقال : «قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب » فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن ، وتقرير الكلام : أن الملك عظم اعتقاده في يوسف لوجوه : أحدها : أنه عظم اعتقاده في علمه ، وذلك لأنه لما عجز القوم عن الجواب وقدر هو على الجواب الموافق الذي يشهد العقل بصحته مال الطبع إليه ، وثانيها : أنه عظم اعتقاده في صبره وثباته ، وذلك لأنه بعد أن بقي في السجن بضع سنين لما أذن له في الخروج ما أسرع إلى الخروج بل صبر وتوقف وطلب أولا ما يدل على براءة حاله عن جميع التهم ، وثالثها : أنه عظم اعتقاده في حسن أدبه ، وذلك لأنه اقتصر على قوله : { ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } وإن كان غرضه ذكر امرأة العزيز فستر ذكرها ، وتعرض لأمر سائر النسوة مع أنه وصل إليه من جهتها أنواع عظيمة من البلاء وهذا من الأدب العجيب . ورابعها : براءة حاله عن جميع أنواع التهم فإن الخصم أقر له بالطهارة والنزاهة والبراءة عن الجرم . وخامسها : أن الشرابي وصف له جده في الطاعات واجتهاده في الإحسان إلى الذين كانوا في السجن . وسادسها : أنه بقي في السجن بضع سنين ، وهذه الأمور كل واحد منها يوجب حسن الاعتقاد في الإنسان ، فكيف مجموعها . فلهذا السبب حسن اعتقاد الملك فيه وإذا أراد الله شيئا جمع أسبابه وقواها .

إذا عرفت هذا فنقول : لما ظهر للملك هذه الأحوال من يوسف عليه السلام رغب أن يتخذه لنفسه فقال : { ائتوني به أستخلصه لنفسي } روي أن الرسول قال ليوسف عليه السلام ثم إلى الملك متنظفا من درن السجن بالثياب النظيفة والهيئة الحسنة فكتب على باب السجن هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء ، ولما دخل عليه قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم دخل عليه وسلم ودعا له بالعبرانية والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك وهذا الملك طلب أن يكون يوسف له وحده وأنه لا يشاركه فيه غيره لأن عادة الملوك أن ينفردوا بالأشياء النفيسة الرفيعة فلما علم الملك أنه وحيد زمانه وفريد أقرانه أراد أن ينفرد به .

روي أن الملك قال ليوسف عليه السلام ما من شيء إلا وأحب أن تشركني فيه إلا في أهلي وفي أن لا تأكل معي فقال يوسف عليه السلام ، أما ترى أن آكل معك ، وأنا يوسف بن يعقوب بن إسحق الذبيح بن إبراهيم الخليل عليه السلام ، ثم قال : { فلما كلمه } وفيه قولان : أحدهما : أن المراد فلما كلم الملك يوسف عليه السلام قالوا لأن في مجالس الملوك لا يحسن لأحد أن يبتدئ بالكلام وإنما الذي يبتدئ به هو الملك ، والثاني : أن المراد : فلما كلم يوسف الملك قيل : لما صار يوسف إلى الملك وكان ذلك الوقت ابن ثلاثين سنة ، فلما رآه الملك حدثا شابا قال للشرابي : هذا هو الذي علم تأويل رؤياي مع أن السحرة والكهنة ما علموها قال نعم ، فأقبل على يوسف وقال : إني أحب أن أسمع تأويل الرؤيا منك شفاها ، فأجاب بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته ، فعند ذلك قال له : { إنك اليوم لدينا مكين أمين } يقال : فلان مكين عند فلان بين المكانة أي المنزلة ، وهي حالة يتمكن بها صاحبها مما يريد . وقوله : { أمين } أي قد عرفنا أمانتك وبراءتك مما نسبت إليه .

واعلم أن قوله : { مكين أمين } كلمة جامعة لكل ما يحتاج إليه من الفضائل والمناقب ، وذلك لأنه لا بد في كونه مكينا من القدرة والعلم . أما القدرة فلأن بها يحصل المكنة . وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير لا يحصل إلا به إذ لو لم يكن عالما بما ينبغي وبما لا ينبغي لا يمكنه تخصيص ما ينبغي بالفعل ، وتخصيص ما لا ينبغي بالترك ، فثبت أن كونه مكينا لا يحصل إلا بالقدرة والعلم . أما كونه أمينا فهو عبارة عن كونه حكيما لا يفعل الفعل لداعي الشهوة بل إنما يفعله لداعي الحكمة ، فثبت أن كونه مكينا أمينا يدل على كونه قادرا ، وعلى كونه عالما بمواقع الخير والشر والصلاح والفساد ، وعلى كونه بحيث يفعل لداعي الحكمة لا لداعية الشهوة ، وكل من كان كذلك فإنه لا يصدر عنه فعل الشر والسفه فلهذا المعنى لما حاولت المعتزلة إثبات أنه تعالى لا يفعل القبيح قالوا إنه تعالى لا يفعل القبيح لأنه تعالى عالم بقبح القبيح عالم بكونه غنيا عنه وكل من كان كذلك لم يفعل القبيح قالوا : وإنما يكون غنيا عن القبيح إذا كان قادرا ، وإذا كان منزها عن داعية السفه فثبت أن وصفه بكونه مكينا أمينا نهاية ما يمكن ذكره في هذا الباب