مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلۡأَرۡضِ يَتَبَوَّأُ مِنۡهَا حَيۡثُ يَشَآءُۚ نُصِيبُ بِرَحۡمَتِنَا مَن نَّشَآءُۖ وَلَا نُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (56)

قوله تعالى { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون }

فيه مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال : قد فعلت ، بل الله سبحانه قال : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض } فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره : قال الملك قد فعلت ، إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك قد أجابه إلى ما سأل . وأقول : ما قالوه حسن ، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر . وأما المؤثر الحقيقي : فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض ، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكنا من القبول ومن الرد ، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي ، وما دام يبقى هذ التساوي امتنع حصول القبول ، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك ، وذلك الترجح لا يكون إلا بمرجح يخلقه الله تعالى ، إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح حصل القبول لا محالة ، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب الأثر ، فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي ، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو .

المسألة الثانية : روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلد بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت ، فقال يوسف عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي ، وجلس على السرير ودانت له القوم ، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ومات بعد ذلك وزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال أليس هذا خيرا مما طلبت ، فوجدها عذراء فولدت له ولدين أفرايم وميشا . وأقام العدل بمصر وأحبته الرجال والنساء ، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى . ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار . ثم برقابهم حتى استرقهم سنين فقالوا والله ما رأينا ملكا أعظم شأنا من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيدا له فلما سمع ذلك قال إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم ، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين هكذا رواه صاحب «الكشاف » والله أعلم .

المسألة الثالثة : قوله : { وكذلك } الكاف منصوبة بالتمكين ، وذلك إشارة إلى ما تقدم يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك وإنجائنا إياه من غم الحبس ، وقوله : { مكنا ليوسف في الأرض } أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع وقوله : { يتبوأ منها حيث يشاء } يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره مكناه متبوأ وقرأ ابن كثير : { نشاء } بالنون مضافا إلى الله تعالى والباقون بالياء مضافا إلى يوسف .

واعلم أن قوله : { يتبوأ منها حيث يشاء } يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد ، ولا ينازعه منازع بل صار مستقلا بكل ما شاء وأراد . ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله فقال : { نصيب برحمتنا من نشاء } .

واعلم أنه تعالى ذكر أولا أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه وهو قوله : { كذلك مكنا ليوسف في الأرض } ثم أكد ذلك ثانيا بقوله : { نصيب برحمتنا من نشاء } وفيه فائدتان :

الفائدة الأولى : أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى . قال القاضي : تلك المملكة لما لم تتم إلا بالأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى .

وجوابه : أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى ، لأن لفظ القرآن يدل على قولنا ، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا ، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه .

الفائدة الثانية : أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة . قال القاضي : هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح .

قلنا : الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة فأما رعاية قيد الصلاح ، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه .